زيارة المدن مثل قراءة الكتب تماما. فأنت حين تشتري تذكرة السفر كأنك تتوجه الي مكتبة وتختار من بين الكتب واحدا يحمل بين صفحاته وعودا وعهودا . حين تدفع الثمن انت علي موعد مع رؤية وفكر وقصة. .
قبل ايام كنت علي موعد مع باريس . ساعتان بالقطار من قلب لندن حملتني الي قلب باريس عشية اعلان فوز فرانسوا هولاند رئيسا. وبالصدفة كانت اقامتي في فندق قريب من ساحة الباستيل حيث انطلقت افراح الفرنسيين علي اختلاف اعراقهم بفوز رئيس جديد يعد باسترداد قيم العدالة والمساواة التي فقدت في زمن ساركوزي.
قلت ان المدن مثل الكتب والكتب هي مثل الناس الذين يكتبونها. في ساحة الباستيل احتفل الباريسيون اروبيون وعرب وافارقة وصينيون بفوز هولاند.
بقدرة قادر سطعت الشمس بعد ايام طويلة من القتامة وسقوط الامطار في اول ايام ولايته . وعليه خرجت للبحث عن وجه المدينة. وكانت محطتي الاولي في الحي اللاتيني ,مكتبة اسمها شكسبير وشركاه. هذه المكتبة تعني بالادب الانجيزي اسسها امريكي يدعي جورج ويتمان. في المكتبة التي يفوح بين ارجائها عطر الزمن التقيت بعبارة تقول: لا تقابل الغرباء بعدم ترحاب لأنهم قد يكونون ملائكة يخفون هوياتهم. أعجبتني الدعوة للترحيب بالغرباء. ولبيت الدعوة بأن صعدت الي الطابق العلوي حيث تتواجد الكتب الاثرية الثمينة في غرفة يتوسطها بيانو كبير جلس اليه احد زوار المكتبة
وضع حقيبته علي الارض وجلس علي كرسي البيانو وغاب عن الزمان والمكان في وصلة عزف هادئ منفرد.
جورج ويتمان مات عن ٩٨ عاما والي يومنا هذا يمكن للزائر ان يقرأ عباراته مكتوبة بالطباشير علي سبورة معلقة علي المدخل يقول فيها: البعض يعتبرني مجنونا لأني افضل الكتب علي البشر ولكن تلك الكتب قدمت لي شخصيات وافكار هي الاقرب الي الواقع الذي عشت من الناس الذين يجوبون الشوارع والميادين.
بعد مكتبة شكسبير اصرت ابنتي علي زيارة مقهي فلور حيث كان الفيلسوف جان بول سارتر يلتقي برفيقته سيمون دي بوفوار. وعلي رشفات القهوة الفرنسية والشكولاته الساخنة تبادلنا حديثا عن دي بوفوار التي تحملت خيانات سارتر المتعددة بصبر جميل ولكن حين فارقها الشباب فارقها معه الصبر علي الحبيب الخائن فتركته.
مع اول رشفة من الشوكولاته نظرت الي الجرسون نظرة امتنان وقلت له عفويا: انك لطيف للغاية. ففاجأني برد قال: أعلم ذلك.
أذهلني" تواضعه". فضحكنا ابنتي وانا.وذكرتني ببائع الفطائر الذي يعمل من كشك متواضع للغاية ولكن فطائره هي الافضل في باريس. قالت ان احدي صديقاتها ذهبت لشراء فطيرة وبادرت البائع قائلة انها سمعت بأن فطائره هي الافضل في باريس. فعبس البائع وقال بلهجة حاسمة: كلا ياسيدتي. فطائري هي الافضل في العالم كله.
في عصر اليوم زرنا حي لو ماريه بحثا عن محل اخوان مارياج للشاي. فللشاي في باريس طقوسا جليلة تمارس في هذا المحل الموغل في القدم. حكايته بدأت في عام ١٦٦٠ حبن اوفد لويس الرابع عشر نيكولاس مارياج لزيارة بلاد فارس والمغول والهند بحثا عن اتفاقات لاستيراد الشاي. وبعد ثلاثة قرون مازال اسم مارياج متداولا عبر هذا المحل الذي يفخر بأنه يبيع ٥٠٠ نوع من انواع الشاي تستورد من ٣٥ دولة . ولا ابالغ حين أقول ان البائع يناولك الكيس الذي يحمل ١٠٠ جرام من الشاي نظير عشرة فرنكات وكأنه يناولك قيراطا من الماس.
في هذا الحي التجاري النابض كانت بانتظارنا مفاجأة اخري فهو حي تسكنه تجمعات يهودية كبيرة . في احدي الحواري شهدنا طوابير طويلة تقف بصبر امام محل يبيع الفلافل التي يدعي سكان الحي انها منتج اسرائيلي.
قبل ان افقد هدوئي المكتسب قررنا ان نزور ساحة الكونكورد حيث تتوسط الساحة مسلة فرعونية يكسو قمتها الذهب الخالص وهي احد المعالم التي تشهد علي حضارة لا يمكن انكارها او اقتباسها كما انها غير قابلة للبيع او الشراء.
أما الفتاة التي عاونتنا علي قراءة الخارطة فكانت فرنسية من اصول افريقية تشهد لكنتها وملابسها وايماءتها علي عنفوان ثقافة فرنسية قد لا تردك عن اعتابها ولكنها عنيدة في "فرنستك" , قبل ان تقول لك تفضل.
فوزية سلامة