كتاب حديث حول الأحداث : ظاهرة الغلو والتكفير .. الأصول، والأسباب ، والعلا

التصنيـف العـام > التوحيد والعقيدة
بيانات الكتاب ..
العنوان	حديث حول الأحداث : ظاهرة الغلو والتكفير .. الأصول، والأسباب ، والعلاج
المؤلف	د.ناصر بن عبدالكريم العقل
نبذة عن الكتاب
تاريخ الإضافة	1-5-1428
عدد القراء	15124
رابط القراءة	<< اضغط هنا >>
رابط التحميل	<< اضغط هنا >>

حديث
حول الأحداث

ظاهرة
الغلو والتكفير

الأصول،
والأسباب ، والعلاج

فضيلة
الشيخ

الأستاذ
الدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل

دار
كنوز إشبيليا

للنشر
والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد
لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،
مــن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله
عليه وسلم ورضي عن آله وصحابته أجمعين.

وبعد:
فإن الله تعالى أوصانا بتقواه، وبالنصح للأمة، وبالقول السديد، فقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:70-71)
وقيد التقوى بالاستطاعة، ثم أعقب ذلك بالتزام السمع والطاعة، فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا )(التغابن: من الآية16)

وأخبر
النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين النصيحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)
(ثلاثاً) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله تعالى ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه
وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم)[1].

واستجابة
لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أقدمت بجهد المقل على الكتابة في هذا الموضوع الحساس والخطير، وهو موضوع
(الغلو والتكفير) وما نتج عنهما في عصرنا هذا من أحداث جسام ومواقف خطيرة.

وربما
يقول قائل - بل قال -: لماذا الحديث عن الغلو والتكفير في هذه الظروف الحالكة التي
تعيشها الأمة؟ مع أن الحديث عن هذا الاتجاه ربما يساير الاتجاه الصليبي واليهودي العالمي،
وما يسمونه (محاربة الإرهاب)؛ إذ يطلقون على الإسلام نفسه وعلى المسلمين عامة هذا الوصف،
ويخصون السنة وأهلها بذلك، ولماذا لا يكون الحديث عن المفاسد الكبرى من العلمنة وحرب
الدين والفضيلة، وعن أحوال المسلمين المؤلمة في كل مكان؟.

فأقول:
نعم إن الحديث عن الغلو والتكفير في هذه الظروف لا يخلو من شيء من الحرج، لكن لابد
مما ليس منه بد، وتفصيل أسباب الحديث عن ذلك كما يلي:

أولاً:
أني قد تحدثت، و(تحدث غيري)، عن العلمنة والاتجاهات
العقلانية، والفرق والأهواء، وكيد الكافرين على المسلمين، وغير ذلك من الموضوعات الخطيرة
والمهمة، في محاضراتي ودروسي وبحوثي ومؤلفاتي، وأسأل الله المثوبة، وهذه الإسهامات
تفوق الكلام عن الغلو والتكفير بكثير.

وثانياً:
أني صرحت - وغيري - بأن العلمنة والإعراض عن الدين، وانتهاك حرمة الإسلام والمسلمين،
هي سبب رئيس لظهور نزعات الغلو والتكفير بالمقابل، ولم أغفل هذا الجانب في سائر أحاديثي
عن هذه الظواهر الخطيرة.

ثالثاً:
أنه في هذه الظروف انكشف لكل مشفق وناصح للأمة عامة، وللشباب بخاصة أن الغلو والتكفير
مرض فتاك سريع العدوى، وأن نتائجه المدمرة عاجلة، وآثاره تفسد الدنيا والدين، وتهلك
الحرث والنسل. كيف وقد تداعى أصحابه إلى إعلان الجهاد في بلاد السنة والمقدسات، وأوهموا
الأغرار من حدثاء الأســنان وسفهاء الأحلام،
بأن بلادهم - دولتهم - في ردة، وأن علماءهم مداهنون (بل عملاء!)، بل كفّرهم
كثيرون من الغلاة.

وبذلك
هدموا أصولاً وثوابت شرعية وحقوقاً مرعية؛ من لزوم الجماعة والسلطان والبيعة والطاعة
والأمن. واستحلوا الدماء المعصومة، والتخريب والتفجير باسم الجهاد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ولم تعد المسألة مسألة أفكار وفتاوى داخل المغارات، أو الخلايا السرية،
لكنها تجاوزت إلى استنفار الغوغاء والدهماء والأغرار للإفساد في أعز بلاد الإسلام اليوم،
وكل ذلك يأتي باسم الجهاد!

وحالنا
مع هؤلاء كحال من كان مشغولاً بصيانة منزله وتنظيفه، وترميمه، وحل النزاعات بين سكانه،
وفجأة يرى من داخل المنزل سفيهاً يحمل شهاباً من نار يريد أن يزيل بعض المؤذيات فيه
بالنار، وما يدري أنه بذلك يعرض المنزل كله وأهله للحريق الذي لا يبقي ولا يذر! فهل
نبقى على الانكفاء على الصيانة والترميم، ولهب النار تستعر؟

ورابعاً:
أننا بعمل ذلك نرغب في كف يد الغر الجاهل وإقناعه بخطورة عمله هذا؛ لعل الله يرده إلى
سبيل الرشاد.

ثم
لنستنهض همم أهل البيت لإصلاح أحوالهم، وتدارك الأمر، وسد الذريعة التي يتذرع بها مسعرو
الفتنة.

وأعلم
من خلال مناقشات ومحاورات أن الكثيرين من أبنائنا وشبابنا الذين غرر بهم الغلاة، ينقصهم
الفقه في الدين، والحكمة والتجربة، وتدفعهم الغيرة على دين الله، والحرقة على أحوال
الأمة، وما أصابها من الذل والهوان وتسلط العدو، وكيد المنافقين، وتخاذل القادرين،
وحين لم يحصنوا بالمناهج والموازين الشرعية التي ترسم لهم طريق الاعتدال، وتفتح لهم
آفاق الحكمة، وقعوا في غوائل التهور والغلو والعنف، وصاروا لقمة سائغة لدعاة الفرقة
والتكفير من الغلاة والتكفيريين والحساد والمتهورين، وقوى أخرى قد لا يعلمونها (الله
يعلمها).

ومع
ذلك فإني أشهد أن كثيرين من الشباب المندفع إذا بُصِّروا بالأمر، وذُكرِّوا بقواعد
الشرع، وجلِّيت لهم الشبهات، ووجدوا من يصغي لتساؤلاتهم وهمومهم، ويعاملهم بنصح ورفق
وإشفاق، أنهم يعودون لجادة الصواب، أو يقربون، فلدى الكثيرين منهم غيرة وصدق، واستعداد
للرجوع للحق والصواب إذا قوبلوا بالحوار الهادئ والكلام العلمي المؤصَّل.

فإذا
حدثتَ بعضهم عن قواعد الدين وأصول السنة ونهج السلف الصالح تجاه الفتن والمفاسد من
ضرورة الصبر والحكمة والرفق والتسديد والمقاربة، ولزوم الجماعة والطاعة، وبيان حقوق
العلماء، ووجوب الالتفاف حولهم والمرجعية لهم، وإيضاح حقوق الولاة، ومنهج التعامل معهم
أبراراً كانوا أو فجاراً، وأهمية رعاية حقوق العباد مسلمهم وكافرهم ، وقيمة الأمن في
تحقيق مقاصد الدين، وجلب المصالح ودرء المفاسد، وكيفية التعامل مع الأحداث الكبرى ومصالح
الأمة العظمى، وأخذ العبر والدروس من الأحداث قديماً وحديثاً، إذا بصَّرت هؤلاء الشباب
المندفعين بهذه الثوابت بأدلتها من القرآن والسنة ومنهج السلف الصالح، وجدتَ منهم قبولاً
من مقل أو مكثر.

خامساً:
ثم أذكّر العاتبين عليّ في إثارة هذا الموضوع بأمر شرعي مهم، وهو أن الرسول صلى الله
عليه وسلم حين حذر من السبل والأهواء لم يسم طائفة، ويفصل فيها وفي أوصافها إلى آخر
الزمان سوى الخوارج وأمثالهم من (.. حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام..)[2] إلى آخر ما
ذكر من وصفهم، مع أنهم مسلمون ذوو صفات عالية في التدين، فهم(يقولون من خير قول البرية)،(تحقرون
صلاتكم عند صلاتهم وصيامكم عند صيامهم)، وهم أصحاب غيرة وحرقــة عــلى الدين، دافعهم
إنكار المنكر، والجهــاد في ســبيل الله ، لكن الغلــو مهلك، حين تجــاوزوا السنة،
فلم يأخذوا بوصايا النبي صلى الله عليه وسلم ونهج السلف الصالح في مواجهة المفاسد وعلاج
الأخطاء والتعامل مع الولاة والأحداث.

ويغلب
على ظني أن أكثر الشباب الذين دخلوا مسارب الغلو والتكفير والتفجير إنما هم ضحايا التغرير
والشحن العاطفي غير المرشَّد، دخلوا هذه المسارب دون تبصر، وأن غالب الرؤوس الذين غرروا
بهم من خارج بلادنا، كانوا يكيدون لهذه البلاد وأهلها منذ زمن بعيد، حتى تهيأت لهم
المصايد، والله حسبنا ونعم الوكيل.

وحسبي
أني ناصح ورائد والرائد، لا يكذب أهله، ولم أتفرد بما كتبته بشيء لكني يسَّرت عرض منهج
السلف الصالح وعلمائنا الأفاضل، وما هو معلوم من قواعد الدين وثوابته، وتطبيقات ذلك
في بلادنا بلد السنة والدعوة كما رسمها أهل الحل والعقد على نهج السلف الصالح منذ بزوغ
فجر دعوة السنة التي قام بها الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.

كما
أني عرضت هذا البحث قبل طبعه على عدد من المشايخ وطلاب العلم والدعاة والمختصين، وأفدت
من توجيهاتهم وملاحظاتهم وأسعدني إقرارهم له، بل وثناؤهم الذي شجعني على الإسراع بإصداره
فجزى الله الجميع خير الجزاء.

والله
أسال أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يهدينا جميعاً إلى طريق السنة والعزة والنصر
والتمكين، وأن يصلح حكامنا ومشايخنا وشبابنا، وأن ويجمع كلمتهم على الحق والهدى، ولا
حول ولا قوة إلا بالله.

وصلى
الله وسلم على نبينا محمد وآله ورضي الله عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين وعنا معهم بفضلهم وكرمه آمين.

أخوكم
الناصح

ناصر
بن عبدالكريم العقل

ليلة
الجمعة 22/10/1425هـ

مفهــــوم الكفر والتكفير

الكفر
فـي اللغة: الكفر في اللغة هو التغطية والستر والظلام، وكل
شيء غطى شيئاً فقد كفره.

والكافر:
الليل المظلم، وسمي الزارع كافراً لغة لأنه يغطي البذر.

والكفر:
ضد الإيمان، ويطلق الكفر على جحود النعمة وهو ضد الشكر [3]، والكفر:
الانحناء والخضوع.

الكفر
شرعاً: كل اعتقاد أو قول أو فعل حَكَمَ الشرع بأنه كفر،
وهو كما قال الليث: "نقيض الإيمان" [4] كجحد الربوبية،
أو النبوة، أو "جحد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أو جحد بعضه" [5]، ومنه الشرك
الأكبر. والإعراض عن الدين بالكلية. وجحد شيء مما ثبت في النصوص، أو معلوم من الدين
بالضرورة.

والملاحظ
أن عامة العلماء حين عرفوا الكفر شرعاً حصروه بالكفر الأكبر، وهو الكفر المطلق، مع
أنه كثيراً ما يطلق مقيداً على الكفر الأصغر، ويفهم من ذلك أنهم لا يرون الكفر الأصغر
من الكفر المخرج من الملة وصاحبه ليس كافرا بل هو باق على أصل الإسلام.

والتكفير
إذا أطلق -كما في هذا البحث- غالباً يقصد به التكفير المذموم وجرى اصطلاح العلماء والباحثين
على هذا، وقد يوصف أصحابه بالتكفيريين، كما يسمى الذين ضلوا في باب القدر (القدرية)
ولا مشاحة في الاصطلاح.

الغلو
لغة:

الغلو
في اللغة هو: مجاوزة الحد، يقال: غلا فلان في الأمر: أي تجاوز الحد فيه [6]، ومنه: غلت
القدر إذا طاشت، وغلا السعر إذا تجاوز حده الطبيعي.

الغلو
شرعاً:

هو
التشدد والخروج عن حد الاعتدال في الدين اعتقاداً أو عملاً، أو هما معاً، وهو الغالب
في أهل الغلو، أي يجمعون بين الغلو في الاعتقاد والغلو في العمل؛ لأنهما متلازمان غالباً.

الخلفيات
والأصول (الجذور العلمية والتاريخية) للغلو في الدين والتكفير:

ترجع
بذور الغلو في الدين إلى رؤوس الثوار على عثمان (رضي الله عنه) وبعض العجم والأعراب
الذين لم يتفقهوا في الدين، وبعض العباد الجهلة الأوائل، وأصحاب الأهواء، وأهل النفاق
والزندقة، وكان من ضحيتهم بعض الغيورين والمندفعين إلى التدين بعاطفتهم بلا حكمة، من
صغار السن (حدثاء الأسنان) كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم الذين يقل فقههم للدين،
وتجربتهم في الحياة، ولم تنضج عقولهم، ولم يرجعوا إلى أهل الذكر والراسخين كما أمر
الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن
هذه الأصناف تكونت فرق الخوارج الأولى الذين قاتلهم الصحابة بعد أن حاوروهم وجـادلوهم،
وبعــد أن استحلوا الدماء، وتكونت كذلك فرق الشيعة وظهرت بذور التصوف البدعي، منهم
ومن بعض العبَّاد والنساك الأوائل في آخر القرن الأول.

وأصول
الغلو والتكفير باقية، وتنبعث كلما توافرت أسبابها في أي زمان وأي مكان وبيئة، لا سيما
مع الأحداث الجسام والفتن، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: (يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام،
يقولون من قول خير البريّة، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، لا يجاوز
إيمانهم حناجرهم..) [7]
إلى آخر الحديث في البخاري وغيره.

وقد
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج؛ لأنهم يستحلون الدماء المعصومة، ويتدينون
بذلك، ويهلكون الحرث والنسل، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب الفساد.

وقد
ظهرت مثل هذه الظواهر على مدار التاريخ، وكان منها في العصر الحديث (جماعة التكفير
والهجرة) وقريب منها (جماعة التوقف والتبين) التي ظهرت في مصر في آخر القرن الماضي،
ثم امتدت أثارها في كثير من بلاد المسلمين والعالم، ولا تزال آثارها النكدة على بعض
شباب الأمة، ولا سيما حين تسللت أفكار الغلاة بين صفوف الجهاد الأفغاني السابق، وابتليت
بها بعض الجبهات الجهادية الأخرى [8].

ونزعة
الغلو والتشدد التي قد تنشأ عنها ظواهر التكفير والعنف قد تصاحب كل نهضة أو دعوة وتشذ
عنها، فكما ظهرت في أول الإسلام، وهي ليست من الإسلام في شيء، لكنها نشاز، لا تزال
تظهر بين وقت وآخر.

كذلك
نجد أن بعض مظاهر التشدد الشاذة صاحبت قيام الدعوة الإصلاحية دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب،
وقيام الدولة السعودية لا سيما في مرحلتها الثالثة، ومن المعلوم أن هذه الظواهر ليست
على نهج السنة والسلف الصالح، إذاً فهي ليست على نهج الدعوة، ولا على نهج الدولة، بل
كانت تسبب لها الكثير من الإحراج؛ لأن الدعوة تقوم على السنة ونهج السلف الصالح وهو
منهج الاعتدال والوسطية، وهي بريئة من الغلو والعنف والتكفير، وما يثيره بعض الجاهلين
وأهل الأهواء من أن العنف والغلو والتشدد صادر عن منهج الدعوة هو باطل قطعاً.

فلا
يجوز بحال نسبة شيء من ذلك إلى دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب ومنهجها [9] ، لكنها ظواهر
تبتلى بها كل أمة.

ولعله
من المناسب التذكير بما تعرضت لـه الدعوة ودولتها منذ أن قام بها الملك عبدالعزيز
-رحمه الله- من نزعات التشدد التي عولجت بالحكمة والحزم من قبل الملك عبدالعزيز والعلماء
وأهل الحل والعقد.

وكان
من آخر حلقات (الغلو) ظهور تلكم الفئة التي دخلت الحرم عام 1400هـ، ثم تلاها بعض ظواهر
التشدد التي أدت أخيراً إلى بـروز ظواهر خطيرة متعددة الوجوه والأغراض والتوجهات، من
التكفير واستباحـة الدماء والإفساد في الأرض، والتنكر للعلماء والولاة والمجتمع، والسعي
إلى تغيير المنكر والفساد بمنكر وفساد أعظم.

وأسهمت
هذه الظواهر -وغيرها- في تجرؤ بعض الناس على ارتكاب الأمور الخطيرة، وتحطيم المسلمات
والثوابت في الدين والعقيدة والسنة، والجماعة، والبيعة، والأمن، وانتهاك حقوق العلماء
والولاة وأهل الحل والعقد والمواطنين والمقيمين، تحت شعارات الدين، والجهاد، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء، والغيرة على الإسلام (وهي أصول حق لكنها
قد توظف خطأ)، ونحو ذلك مما يعد من الفساد والإفساد الذي يجب على الجميع الإسراع في علاجه من قبل الدولة والعلماء
وأهل الرأي والمشورة، والآباء والمربين والدعاة (فكلهم راع ومسؤول عن رعيته) [10] والله حسبنا،
ونعم الوكيل.

أحكـــام التكفير

الكفر
والتكفير: من الأحكام الشرعية الواردة في القرآن والسنة،
وآثار السلف الصالح، وهو في أصله (في القرآن والسنة) قسمان:

الأول:
الكفر الأصلي:

وهو
حكم شرعي ثابت قطعي، وهو كفر كل من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
(ويلتزم شروطها).

ومنه
كفر اليهود والنصارى (أهل الكتاب)، وكفر المشركين، ومنهم أصحاب الديانات الوثنية والوضعية،
والملاحدة، فهؤلاء كلهم كفار خلَّص بقطعيات النصوص والإجماع.

الثاني:
الكفر غير الأصلي (الطارئ):

وهو
الكفر الذي يقع فيه من كان على أصل الإسلام، من أهل القبلة (المسلمين)، وهو نوعان:

الكفر
الأكبر: المخرج من الملة، كفر الردة، المناقض لأصل الإيمان،
الموجب للخلود في النار، وهو الكفر الطارئ الذي يقع ممن كان على الإسلام (من أهل القبلة)،
ولا يحكم به على المعين إلا بشروط يحكم بها الراسخون في العلم.

والكفر
الأصغر: وهو لا يخرج من الملة، وهـو الـذي ينقص الإيمان،
وصوره كثيرة، فأكثر ما أطلق عليـه النبي صلى الله عليه وسلم كفراً مقيّداً مـن الأقـوال
والأفعال والأحوال هـو مـن الكفر الأصغر، فقد صـح عنــه صلى الله عليه وسلم أنه أطلق
الكفر على: قتال المسلم كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنـه قـال: (سـباب المسلم فسوق
وقتاله كفر)[11]
، وأن (يضـرب بعضكم رقـاب بعض)[12] ، و(من رغب
عن أبيه فهو كفر) [13]، و(إذا قال
الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) [14] وأطلق الكفر
كذلك على العبد الآبق [15]، ومن قال
مطرنا بنوء كذا [16]
والطعن في الأنساب والنياحة [17]، وإتيان
الحائض والمرأة في دبرها [18]، وغير ذلك
كثير.

أنواع
الكفر من حيث أسبابه وأصوله

أما
الكفر من حيث أسبابه وأصوله فقد بين الشيخ حافظ الحكمي أن أنواع الكفر أربعة:

1-
كفر الجهل
والتكذيب.

2-
كفر الجحود.

3-
كفر العناد والاستكبار.

4-
كفر النفاق
(يعني الخالص)[19]
ويدخل في ذلك كفر الإعراض والشك.

والفرق
كبير جداً بين إطلاق الكفر على الاعتقادات والأفعال والأقوال والأحوال وبين إطلاقه
على المعيّن الذي يحدث منه ذلك.

وقواعد
ذلك من أهم القواعد والفوارق الضرورية التي صار جهلها وعدم اعتبارها مبعث فتنة، وأدى
إلى وقوع كثير من الناس قديماً وحديثاً في غوائل الغلو والأهواء والتكفير المذموم والأحكام
الجائرة، والأفعال الشنيعة، من استحلال الدماء المعصومة، والفساد في الأرض، كما سيأتي
بيانه في ضوابط التكفير المشروع وقواعده.

من قواعد التكفير وضوابطه

المقصود
بالتكفير هنا الحكم بالكفر على المعينيّن ممن هم على أصل الإسلام (أهل القبلة) من الأشخاص،
والهيئات والفرق والجماعات والدول [20].

وهذا
النوع من التكفير قد زلّت بجهله أقدام، وهلك أقوام، وضلت فرق كالخوارج والمعتزلة والمرجئة
وغيرهم، ما بين غال يكفِّر بلا بينات وبلا علم ولا نظر في شروط التكفير وموانعه، وما
بين متساهل لا يكاد يكفِّر بالكفر البواح.

فالمسلم
-براً كان أو فاجراً، على السنة كان أو من أهل البدع- لا يجوز تكفيره إذا وقع منه قول
أو فعل كفريّ، حتى تنطبق عليه شروط الكفر، وتنتفي موانعه.

وقبل
الشروع في بيان شروط التكفير وموانعه يحسن التقديم كذلك ببيان بعض الضوابط المهمة في
هذا الباب، ومنها:

1-
أن التكفير من الأحكام الخطيرة والحساسة، ولا تكون إلا بتثبّت وبيّنات.

وقد
جاء فيه الوعيد كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر،
فقد باء به أحدهما)[21].

ويجب
أن يحرص المسلم على دفع الكفر ودرئه عن المسلم قدر الإمكان، قال فضيلة الشيخ عبدالله
بن جبرين حفظه الله: ".... وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات فأولى ثم أولى أمر
التكفير ولذلك كان الإمام مالك رحمه الله يقول: "لو احتمل المرء الكفر من تسعة
وتسعين وجهاً واحتمل الإيمان من وجه لحملته على الإيمان تحسينا للظن بالمسلم"
مثال ذلك: إذا شتم رجل دين مسلم فيحتمل أن يكون هذا السب استخفافاً بالدين فيكفر ويحتمل
أن يكون مراده أخلاقه الردية ومعاملته القبيحة لا حقيقة دين الإسلام فينبغي ألا يكفر
حينئذ"[22].

2-
وبناء عليه فإن الذي يحكم ويتولى الحكم بالكفر ولوازمه على الأعيان من الأفراد والفرق
والهيئات والدول هم العلماء الراسخون، لا سيما عند الفتن، وفي المواقف الكبرى والأحداث
العظمـى، كمـا قـال الله تعـالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ )(النساء: من الآية83)

3-
أن سائر ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال المسلمين وأقوالهم بأنه (كفر) هو
من الكفر الذي لا يخرج من الملة، ويبقى فاعله (فرداً كان أو جماعة) على أصل الإسلام،
في الواجبات والحقوق، وقد ذكرت ذلك في أحكام التكفير قبل قليل، فليرجع إليه.

ونفى
الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان عمّن (لا يأمن جاره بوائقه) فقال: ( لا يدخل الجنة
من لا يأمن جاره بوائقه) [23].

وكذلك
عن السارق والزاني وشارب الخمر حين يفعل ذلك، فقال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...)
الحديث [24].

وقال
صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) [25] (ومن تشبه
بقوم فهو منهم)[26].

ومعلوم
أن هذه من الكبائر، يبقى فاعلها مسلماً وعلى أصل الإيمان، وله حقوق المسلم حتى وإن
أصرَّ على الكبيرة.

4-
أنه لا يجوز تكفير المعيّن إذا قال كفراً، أو فعل كفراً، إلا بعد إزالة الشبهة وقيام
الحجّة عليه، من قبل من يملك ذلك من أهل العلم.

5-
أنه حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كفريات مخرجة من الملة في ظاهرها، ولم يكفّر
أعيان فاعليها؛ لعارض الجهل، أو الإكراه، أو التأول، أو نحو ذلك.

فقد
سجد لـه معاذ رضي الله عنه، والسجود لغير الله شرك، وعذره بجهله قائلاً: (فلا تفعل؛ فإني لو كنت آمراً أحداً ليسجد لغير الله لأمرت
المرأة أن تسجد لزوجها) [27].

وقد
ظاهر حاطب رضي الله عنه المشركين [28]، ولما اعتذر
قبل منه الرسول صلى الله عليه وسلم العذر لسابقته في الإسلام وشهوده بدراً وكونه متأولاً،
ويحب الله ورسوله، وقال ذو الخويصرة في الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً كفرياً يخرج
من الملة، ولم يحكم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء قاطع، ولم يأذن لعمر رضي الله
عنه بقتله.

وحين
استهزأ المنافقون بالله وآياته ورسوله والمؤمنين لم يتعجَّل الرسول صلى الله عليه وسلم
في الحكم عليهم حتى جاء حكمهم من السماء وقال الله فيهم: ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ
أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا
إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ* وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا
كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ
*لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ
مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة:64-66) .

وتأمّل
قوله تعالى Sad

إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ
كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة: من الآية66)

وحـين
طلـب بعض الصحـابة من حديثي العهد أن يجعــل لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذات أنواط
كما للمشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، والذي نفسي
بيده لتركبن سنة من كان قبلكم) [29]، ومع ذلك
لم يحكم بكفرهم لجهلهم.

6-
حين نستعرض أقوال السلف وآثارهم وأفعالهم وأحوالهم -من الصحابة والتابعين وأئمة السنة
والجماعة وعلمائهم- نجد بيانهم للكفر وتحذيرهم منه في العقائد والأحكام وغيرها كثيراً
جداً لكن تكفيرهم للأعيان من الأفراد والفرق والهيئات نادر جداً.

ولما
واجهوا الخوارج الذين ارتكبوا عظائم الأمور من الخروج على جماعة الصحابة وإمامهم، والغلو
والتكفير والفساد في الأرض والإخلال بالأمن لم يكفروهم!

ولم
يكفّروا عموم الشيعة، وأعيانهم ولا المعتزلة ولا المرجئة، ولا القدرية الثانية، ولا
غيرهم من فرق الأمة (سوى الغلاة منهم الذين لا عذر لهم) مع أن في بعض مقالاتهم كفريات.

وكثيرون
من أئمة السلف واجهوا (أئمة الضلالة) الذين يدعون إلى الكفريات ولم يكفِّروهم [30].

فهذا
الإمام أحمد إمام السنة والجماعة، واجه دعاة المعتزلة والجهمية الذين فرضوا على الناس
الكفريات، وحملوهم عليها بقوة السلطان أيام المأمون والمعتصم والواثق، وكذلك أئمة الضلالة
من الجهمية كابن أبي دؤاد وغيرهم.

ومع
ذلك لم يكفر الإمام أحمد أحداً منهم بعينه، وكان يدعو للمأمون والواثق والمعتصم، ويصلي
خلفهم، ويأمر بعدم الخروج عليهم.

وفي
عهود ضعف المسلمين في الأندلس والشام ومصر وغيرها حصلت مظاهرة للمشركين والصليبيين
النصارى من قبل بعض الملوك والسلاطين المسلمين، ولم يكفرهم بعض السلف، وكثير من العلماء
جعلوا ذلك من كبائر الذنوب.

وكذلك
شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وغيرهما إلى مشايخنا المعاصرين
[31]، يندر تكفيرهم
للأعيان من الأفراد والفرق والجماعات والدول. بخلاف ما يزعمه خصومهم وبعض الجاهلين
ممن ينتسبون إلى السنة والسلفية.

شــروط التكفير

أهم
شروط التكفير ما يلي:

لا
يحكم بالكفر على من فعل أو قال بالكفر إلا إذا كان:

1-
بالغاً 2- عاقلاً 3- عالماً
4- متعمداً 5- غير متأول 6- ولا مكره.

وعلى
هذا فلا يحكم بالكفر المخرج من الملة في الأحوال التالية:

1-
فاقد العقل بجنون أو مرض أو نحوهما؛ حيث صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رُفِعَ
القلمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل)
[32].

2-
الصغير الذي لم يبلغ سن التميز أو التكليف كما في الحديث السابق.

3-
الجاهل: أي مَنْ وقع منه الكفر قولاً أو فعلاً وهو لا يعلم أن قوله أو فعله كفرٌ مخرجٌ
من الملة.

ومن
ذلك سجود معاذ رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم [33] وقصة ذات
الأنواط [34]،
كما سبق ذكرها.

4-
العمد: أن يقصد فعل الكفر أو قوله غير جاهل، ولا متأوّل، ولا مكره.

5-
غير متأول - والتأول صوره كثيرة: كأن يفسِّر الدليل بما يسوِّغ به الفعل، أو يدفع الدليل
أو دلالته بما يظن به أنه يجوز له به الفعل، أو يترخص بما يظن أنه عذر عاذر له في ارتكاب
ما فعله، أو يخطئ في فهم النص، أو الحكم الشرعي المفهوم من النص، كما جاء في قصة يوم
الأحزاب حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصليّن أحد العصرَ إلا في بني قريظة)،
فتخّوفَ ناسٌ فَوْتَ الوقتِ، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا
رسول الله، وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنَّف
واحداً من الفريقين [35]، والأمر
متعلق بفريضة الإسلام وركن الدين.

6-
الإكراه: فالمسلم إذا وقع في أمر مكفّر بطريق الضرورة والإكراه فإنه لا يَكْفُرُ بعينه،
فرداً كان أو جماعة، أو هيئة، أو دولة؛ لقوله
تعالى: ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:106)

وقوله
تعالى: ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا
مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا
وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا
رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286)
وقوله: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(التغابن: من الآية16)

وصح
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه) [36].

وصور
الإكراه في ما أصاب المسلمين اليوم من حالة الذلة والهوان -حين تنازعوا وأعرضوا عن
شرع الله- ظاهرة على كثير من الأفراد والشعوب والدول، والله حسبنا ونعم الوكيل.

واعتبار
هذه الشروط والموانع هو الذي دلت عليه النصوص، وعليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين
وأئمة الهدى والأعلام، وعلماؤنا إلى اليوم، وإلى قيام الساعة. ولذلك تجدهم مع كثرة
ذكرهم لمقالات الكفر، وأفعال الكفر، وتحذيرهم منها، يندر تكفيرهم للأعيان من الأفراد
والفرق والجماعات والسلاطين.

وقفة
عند النواقض العشرة:

كثيراً
ما يستند الغلاة التكفيريون في تكفيرهم للأعيان والجماعات والدول؛ على ما ذكره الإمام
محمد بن عبدالوهاب في النواقض العشرة لأنهم لا يعملون بالقواعد التي يراعيها السلف
ومنهم الإمام محمد بن عبدالوهاب نفسه في الحكم على الأعيان حين تحدث منهم هذه النواقض،
والمعلوم عند السلف أن هذه النواقض ونحوها قواعد مجملة تحكمها شروط التكفير وموانعه،
ثم إنها تتشعب كسائر أنواع الكفر فمن صورها مالا يخرج من الملة ويكون من صغائر الذنوب،
أو من كبائرها، أو من الكفر غير المخرج، ولذلك نجد الإمام محمد بن عبدالوهاب يقول في
صورة من صور أشد هذه النواقض وهو الشرك: (وإن كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي هو على
قبر عبدالقادر والصنم الذي على قبر البدوي وأمثالها لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف
نكفر من لا يشرك بالله" [37].

وأسوق
للقارئ الكريم أنموذجاً من بيانات مشايخنا - (حفظهم الله ورحم من مات منهم)- حول الغلو
وما نتج عنه من التكفير والفساد في الأرض؛ لترى فيه منهج الرشد وسلامة الحكم، والاعتماد
على الأدلة والقواعد الشرعية.

بيان
هيئة كبار العلماء حول الغلو والتكفير وما ينجم عنهما من الفساد

"الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما
بعد:

فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين
المنعقدة بالطائف ابتداء من تاريخ 2/4/1419هـ ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية
وغيرها من التكفير والتفجير، وما ينشأ عنه من سفك الدماء، وتخريب المنشآت، ونظراً إلى
خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة، وإتلاف أموال معصومة، وإخافة
للناس، وزعزعة لأمنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلس إصدار بيان

[1] - سيأتي تخريجه.

[2] - رواه البخاري وسيأتي تخريجه.

[3] - راجع لسان العرب (كفر) ومختار الصحاح (كفر).

[4] - عن تهذيب اللغة للأزهري 4/3162.

[5] - الإرشاد إلى معرفة الأحكام للسعدي 203، 204.

[6] - راجع لسان العرب (غلا) ومختار الصحاح (غلا).

[7] - صحيح البخاري رقم (1136) ومسلم رقم (1066)، وجاء
في فتاوى اللجنة الدائمة:

"هذا الحديث وما في معناه قاله النبي صلى الله
عليه وسلم في الطائفة المسماه بالخوارج لأنهم يغلون في الدين ويكفرون المسلمين بالذنوب
التي لم يجعلها الإسلام مكفرة وقد خرجوا في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنكروا
عليه أشياء فدعاهم إلى الحق وناظرهم في ذلك فرجع كثير منهم إلى الصواب وبقي آخرون فلما
تعدوا على المسلمين قاتلهم علي رضي الله عنه وقاتلهم الأئمة بعده عملاً بالحديث المذكور
وما جاء في معناه من الأحاديث ولهم بقايا إلى الآن والحكم عام في كل من اعتقد عقيدتهم
في كل زمان ومكان وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين"
(فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء 2/368).

[8] - لا يلزم أن يكون كل مجاهد تكفيرياً، ولا كل تكفيري
مجاهداً كما يفهم بعض الناس.

[9] - انظر بيان ذلك مفصلاً في كتاب: (إسلامية لا وهابية)
للمؤلف ص (243 وما بعدها).

[10] - هذه قاعدة عظيمة في الدين والدنيا كما صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم، الحديث في صحيح البخاري برقم (844) ومسلم برقم (3408) وصحيح الجامع
(4445).

[11] - صحيح البخاري، الحديث رقم (48)، وصحيح مسلم برقم
(64).

[12] - صحيح البخاري، الحديث رقم (6166) ومسلم رقم
(65).

[13] - صحيح البخاري، الحديث رقم (6786) ومسلم رقم
(62).

[14] - صحيح البخاري، الحديث رقم (6103)، ومسلم رقم
(60) وصحيح الجامع رقم (722).

[15] - صحيح مسلم رقم (68).

[16] - صحيح البخاري رقم (846) وصحيح مسلم رقم (71).

[17] - صحيح مسلم رقم (67)، قال النووي: "وفيه أقوال:
أصحها أن معناه هما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية، والثاني: أنه يؤدي إلى الكفر،
والثالث: أنه كفر النعمة والإحسان والرابع أن ذلك في المستحل" شرح النووي على
صحيح مسلم 2/57.

[18] - سنن أبي داود برقم (3405) وابن ماجه برقم
(631) وأحمد في المسند برقم (8922) وصححه الألباني في الإرواء (7/69).

[19] - انظر معارج القبول 2/593، ومدارج السالكين لابن
القيم 1/337.

[20] - أما تكفير الكفار الخلَّص فهو من أحكام الله القطعية
التي لا مجال للاجتهاد فيها.

[21] - أخرجه البخاري في الصحيح برقم (6103).

[22] - مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن جبرين الجزء السادس.

[23] - صحيح مسلم برقم (66)، سنن الترمذي برقم:
(2444).

[24] - صحيح الجامع الصغير برقم (7583).

[25] - صحيح الجامع الصغير (8362).

[26] - صحيح الجامع الصغير (6025).

[27] - سنن أبي ماجه برقم (1843) والترمذي برقم
(1079)، وأحمد في المسند برقم (18591)، وقال شعيب الأرناوؤط: (وسنده حسن وصححه ابن
حبان (1390) في تعليقه على زاد المعاد 4/160.

[28] - صحيح البخاري برقم (2851) ومسلم برقم (2494).

[29] - رواه الترمذي برقم (2106) وأحمد في المسند برقم
(20892) وصححه الألباني في ظلال الجنة.

[30] - انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/507، 28/500،
23/348.

[31] - للاستزادة يراجع فتاوى شيخ الإسلام 28/500 والدرر
السنية وفتاوى بان باز وابن عثيمين وفتاوى اللجنة الدائمة ج2، وفتاوى ابن إبراهيم
1/73 وفتنة التكفير للألباني ومحاضرات في العقيدة والدعوة للفوزان 2/373، وفتاوى ورسائل
ابن جبرين ج 6.

[32] - صحيح الجامع الصغير برقم (3506) و(3507) و(3508)
بألفاظ مقاربة، و(صححه الألباني) والترمذي برقم (1343) وأبو داود برقم (4398) وابن
ماجه برقم (2032) وأحمد في المسند (896).

[33] - سبق تخريجه.

[34] - سبق تخريجه.

[35] - أخرجه البخاري برقم (946) و مسلم برقم (1770).

[36] - أخرجه الحاكم 2/198، وابن ماجه (2045)، وصححه الألباني
في صحيح ابن ماجه (1664)

[37] - الدرر السنية 1/102-104.

يوضح
فيه حكم ذلك نصحاً لله ولعباده، وإبراء للذمة، وإزالة للبس في المفاهيم لدى من اشتبه
عليهم الأمر في ذلك، فنقول وبالله التوفيق:

أولاً:
التكفير حكم شرعي، مرده إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم
والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون
كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.

ولما
كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله لم يجز أن نكفّر إلا مَنْ دلّ الكتاب والسنة على
كفره دلالة واضحة، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن؛ لما يترتب على ذلك من الأحكام
الخطيرة، وإذا كانت الحدود تُدْرَأُ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقلّ مما يترتب
على التكفير، فالتكفير أولى أن يُدْرَأ بالشبهات، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم
من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: (أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء
بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه) [1]. وقد يرد
في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفرٌ، ولا يكفر من
اتصف به؛ لوجود مانع يمنع من كفره، هذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود
أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها، كما في الإرث، سببه القرابة -مثلاً- وقد لا يرث
بها؛ لوجود مانع، كاختلاف الدين، وهكذا الكفر، ويُكره عليه المؤمن، فلا يكفر به، وقد
ينطق المسلم بكلمةٍ بالكفر؛ لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما، فلا يكفر بها؛ لعدم القصد،
كما في قصة الذي قال: (اللهم أنت عبدي، وأنا ربك) [2] أخطأ من شدة
الفرح.

والتسرع
في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح،
وغيرها مما يترتب على الردة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة؟

وإذا
كان هذا في ولاة الأمور كان أشد؛ لما يترتب عليه من التمرد عليهم، وحمل السلاح عليهم،
وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء، وفساد أمور العباد والبلاد في دينهم ودنياهم ولهذا منع
النبي صلى الله عليه وسلم من منابذتهم، فقال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه
من الله برهان) [3].
فأفاد قوله: (إلا أن تروا)[4] أنه لا يكفي
مجرد الظن والإشاعة. وأفاد قوله: (كفراً) أنه لا يكفي الفسوق ولو كبر، كالظلم وشرب
الخمر ولعب القمار، والاستئثار المحرم. وأفاد قوله: (بواحاً) أنه لا يكفي الكفر الذي
ليس ببواح، أي: صريح ظاهر، وأفاد قوله: (عندكم فيه من الله برهان) أنه لابد من دليل
صريح، بحيث يكون صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فلا يكفي الدليل ضعيف السند، ولا غامض
الدلالة.

وأفاد
قوله: (من الله) أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة
إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذه
القيود تدل على خطورة الأمر.

وجملة
القول: أن التسرع في التكفير له خطره العظيم؛ لأنه قول على الله بغير بينات وهذا من
المحرمات الكبرى، لقول الله عز وجل: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33)

ثانياً:
ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصة
والعامة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت، فهذه الأعمال وأمثالها محرمة شرعاً
بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك
لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم
ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها.

وقد
حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم، وحرم انتهاكها، وشدد في ذلك، وكان
من آخر ما بلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، فقال في خطبة حجة الوداع: (إن دماءكم
وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ثم قال
صلى الله عليه وسلم: (ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)[5] متفق عليه.

وقال
صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه)[6].

وقال
عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)[7] .

وقد
توعد الله سبحانه من قتل نفساً معصومة بأشد الوعيد، فقال سبحانه في حق المؤمن: ( وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93)

وقال
سبحانه في حق الكافر الذي لـه ذمة في حكم القتل الخطأ: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ
يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ
مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ
كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:92)

،
فإذا كان الكافر الذي لـه أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قتل عمداً،
فإن الجريمة تكون أعظم، والإثم يكون أكبر. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)[8] .

ثالثاً:
إن المجلس إذ يبين حكم تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم، وخطورة إطلاق ذلك؛ لما يترتب عليه من شرور وآثام، فإنه يعلن للعالم أن الإسـلام
بـريء من هذا المعتقد الخاطئ، وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدمــاء البريئة،
وتفجير للمساكن، هو عمل إجرامي، والإسلام بريء منه، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم
الآخر بريء منه، وإنما هو تصرّفٌ من صاحب فكر منحـرف، وعقيـدة ضـالة، فهو يحمل إثمه
وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين
بالكتاب والسنة، المتمسكين بحبل الله المتين، وإنما هـو محض إفسـاد وإجـرام تـأباه
الشريعة والفطرة، ولهذا جـاءت نصـوص الشريعـة قـاطعة بتحـريمه، محـذرة من مصاحبة أهله.
قال الله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) (البقرة:204)

والواجب
على جميع المسلمين في كل مكان التواصي بالحـق، والتناصح على البـر والتقـوى، والأمـر
بـالمعروف، والنهي عن المنكر بالحكمـة والموعظـة الحسنة، والجدال بالتي هـي أحسن، كما
قال الله سبحانه وتعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )(المائدة: من
الآية2)

وقال
سبحانه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(التوبة: من الآية71)

وقـال
عـز وجـل: ( وَالْعَصْرِ* إن الإنسان لفي خسر*
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (العصر:1-3)

وقـال
النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة قيل: لمن يـا رسـول الله؟ قــال: لله ولكتابـه
ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)[9] وقـال عليـه
الصـلاة والسلام: (مثل المؤمنين في تـوادهم وتـراحمهم وتعاطفهم مثـل الجسـد، إذا اشتكى
منـه عضـو تـداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [10] والآيات
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

ونسأل
الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكفّ البأس عن جميع المسلمين، وأن يوفق
جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد وقمع الفساد والمفسدين، وأن
ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعاً في كل مكان، وأن ينصر
بهم الحق؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه"
[11].

أســباب التكفير

أ-
الأسباب العامة في ظهور الغلو والتشدد والتكفير في كل زمان ومكان [12]:

أذكر
هنا ما تيسّرَ لي استقراؤه من أسباب ظهور نزعات الغلو والتنطع في الدين بين المسلمين
في العصر الحديث، وهي الأسباب العامة (عبر التاريخ) التي غالباً ما تكون ممهدة لظهور
هذه النزعات في أي زمان أو بيئة.

وأهمها
في نظري ما يأتي:

1-
شيوع البدع والمنكرات والفساد والظلم في المجتمعات، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، أو التقصير فيه، كما في كثير من البلاد الإسلامية.

2-
قلة الفقه في الدين (أي ضعف العلم الشرعي)، أو أخذ العلم عن غير أهله أو على غير نهج
سليم، أو تلقيه عن غير أهلية ولا جدارة.

3-
ظهور نزعات الأهواء والعصبيات والتحزبات والشعارات.

4-
الابتعاد عن العلماء وجفوتهم، وترك التلقي عنهم، وعدم الاقتداء بهم، وما نتج عن ذلك
من التلقي عن دعاة السوء والفتنة والأهواء والالتفاف حولهم [13].

5-
التعالم والغرور، والتعالي على العلماء وعلى الناس، واحتقار الآخرين وآرائهم.

6-
حداثة السن [14]
وقلة التجارب، والغيرة غير المتزنة؛ (عواطف بلا علم ولا حكمة).

7-
النقمة على الواقع وأهله؛ بسبب سوء الأوضاع الدينية والاقتصادية والسياسية في كثير
من بلاد المسلمين،وما يترتب على ذلك من ردود الأفعال التي لا تقدر عواقب الأمور.

8-
تحدي الخصوم (في الداخل والخارج)، واستفزازهم للغيورين، وللشباب وللدعاة، وهو ما يمكن
أن يطلق عليه: (المكر الكبَّار)، وكذلك كيدهم للدين وأهله، وطعنهم في السلف الصالح.

9-
قلة الصبر، وضعف الحكمة في الدعوة لدى كثير من الغيورين؛ ولا سيما بعض الشباب المتدين،
ومن ذلك ضعف إدراك الكثيرين لسنن الله تعالى الكونية والشرعية، في الصراع والتدافع
بين الحق والباطل، والقواعد الشرعية التي تحكم ذلك.

إذا
توافرت هذه الأسباب ونحوها أو أكثرها، مهَّد هذا لظهور الغلو والتنطع، ثم التكفير واستحلال
الدماء والفساد في الأرض في أي زمان وأي مكان وأي مجتمع، وبخاصة إذا انضاف إلى هذه
الأسباب تقصير الولاة، وغفلة العلماء وطلاب العلم والدعاة والمربين والآباء والمتصدِّرين،
عن معالجة هذه السمات وأسبابها في وقت مبكر.

هذه
بعض الأسباب العامة التي ينشأ عنها الغلو على مدار التاريخ.

أما
الأسباب التي هيأت لظهور الغلو والعنف في العصر الحديث بين المسلمين في شتى بلاد العالم
فأذكرها في الفقرة الآتية:

ب-
أسباب ظهور الغلو والتكفير ومظاهره في العصر الحديث [15]:

أما
الأسباب التي هيأت لبروز الغلو الذي هو سبب من أسباب التكفير والعنف بين المسلمين في
العصر الحديث [16]،
فهي كثيرة ومتشابكة، وهي فرع عن الأسباب العامة، وتتمثل -في نظري- بما يأتي:

أولاً:
إعراض أكثر المسلمين عن دينهم، عقيدة وشريعة وأخلاقاً، إعراضاً لم يحدث مثله
في تاريخ الإسلام، مما أوقعهم في ضنك العيش، وفي حياة الشقاء. كما قال تعالى : ( وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَعْمَى) (طـه:124)

ويتجلى
هذا الإعراض بأمور كثيرة في حياة كثير من المسلمين اليوم؛ أفراداً وجماعات، ودولاً
وشعوباً، وهيئات ومؤسسات، ومن مظاهر هذا الإعراض:

1-
كثرة البدع والعقائد الفاسدة، وما نتج عن ذلك من الافتراق والفرق والأهواء، والتنازع
والخصومات في الدين.

2-
الإعراض عن نهج السلف الصالح وجهله، أو التنكر له، ومنه:

أ-
الجهل بقواعد الشرع ومقاصده عموماً، والجهل بقواعد التكفير وشروطه، وأحكام المعينين
بخاصة.

ب-
العلمنة الصريحة في أكثر بلاد المسلمين، والتي أدت إلى الإعراض عن شرع الله، وإلى الحكم
بغير ما أنزل الله، وظهور الزندقة والتيارات الضالة، والتنكر للدين والفضيلة، مما أدى
إلى:

ج-
شيوع الفساد والضلال، وظهور الفواحش والمنكرات، وحمايتها.

د-
التعلق بالشعارات والمبادئ الهدامة والأفكار المستوردة.

وكل
هذه الأمور ونحوها مما يندرج تحت مفهوم الإعراض عن شرع الله تثير غيرة الشباب المتدين،
وحين لا يظهر له السعي الجاد لتغيير الحال وإنكار المنكر، يلجأ بعضهم إلى التصدي لهذه
الانحرافات بلا علم ولا حكمة.

3-
وقوع أكثر المسلمين في التقصير في حق الله تعالى، وارتكابهم للذنوب والمعاصي، والمنكرات،
وضعف مظاهر التقوى والورع والخشوع في حياة المسلمين اليوم.

4-
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو التقصير فيه في أكثر بلاد المسلمين.

[1] - سبق تخريجه.

[2] - رواه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2747) واللفظ
لـه. من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[3] - رواه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2747) واللفظ
لـه. من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[4] - والخطاب هنا موجه للجماعة والذين على رأسهم في
هذا الأمر الشرعي الخطير العلماء وأهل الحل والعقد (ناصر).

[5] - رواه البخاري برقم (1741) ومسلم برقم (1679) عن
أبي بكرة رضي الله عنه.

[6] - رواه مسلم برقم (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه.

[7] - رواه البخاري برقم (2447) ومسلم برقم (2579) عن
ابن عمر. كما أخرجه مسلم برقم (2578) عن جابر رضي الله عنه واللفظ له.

[8] - رواه البخاري برقم (3166) من حديث عبدالله بن عمرو
رضي الله عنهما.

[9] - رواه مسلم برقم (55) من حديث أبي رقية تميم بن
أوس الداري رضي الله عنه.

[10] - رواه البخاري برقم (6011)، ومسلم برقم (2586) عن
النعمان بن بشير رضي الله عنه.

[11] - "مجلة البحوث الإسلامية" العدد (56)،
(ص 357-362) وكتاب الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية - جمع وإعداد محمد بن فهد الحصين
65-70، والهوامش له إلا ما رمزت له بـ(ناصر).

[12] - راجع كتاب (الخوارج) للمؤلف 123-124.

[13] - أنظر رسالة (العلماء هم الدعاة) للمؤلف.

[14] - هذا من حيث كونها سمة عامة ومطابقة لوصف النبي
صلى الله عليه وسلم للغلاة بأنهم: (حدثاء الأسنان) وهي ليست قاعدة مطردة، فقد يكون
من حدثا الأسنان من يؤتيه الله حكمة وافية ورسوخاً في العلم لكنه شيء نادر، والنادر
لا حكم له.

[15] - راجع (الخوارج) للمؤلف 125-131.

[16] - ما يسمى بالإرهاب والعنف ظاهره شعوبية عالمية،
لكنها قد تبدو بين المسلمين أكثر؛ لأنهم مستهدفون، ويواجهون تحدياً سافراً وظلماً بيناً،
وهم أكثر إباءً للضيم، ولأنهم أصحاب الدين الحق والقضية العادلة، فكان أن غلت طوائف
من شبابهم وجماعاتهم في مواجهة التحديات إلى تجاوز المنهج الشرعي والخروج عن الحكمة
والاعتدال الذي يأمر به الإسلام.

ثانياً:
شيوع الظلم بشتى صوره وأشكاله: ظلم الأفراد، وظلم الشعوب،
وظلم الولاة وجــورهم، وظلم الناس بعضهم لبعض، بما ينافي مقاصد الشريعـــة، وما أمر
الله به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، من تحقيق العدل، ونفي الظلم، مما يُنمِّي
مظاهر السخط والتذمر والحقد والتشفي في النفوس.

ثالثاً:
تحكم الكافرين: (من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين) في مصالح المسلمين،
وتدخلهم في شؤون البلاد الإسلامية، ومصائر شعوبها عبر الاحتلال، والغزو الفكري والإعلامي
والاقتصادي، وتحت ستار المصالح المشتركة، أو المنظمات الدولية، ونحو ذلك مما تداعت
به الأمم على المسلمين من كل حدب وصوب، بين طامع وكائد وحاسد.

وغير
ذلك من صور التحكم في مصائر المسلمين والحجر عليهم، مما أدى إلى تذمر المسلمين كلهم،
وشعور طوائف من شبابهم ومثقفيهم وأهل الغيرة منهم بالضيم والإذلال والإحباط، وما ينتج
عن ذلك من ردود الأفعال والسخط والعنف.

رابعاً:
محاربة التمسك بالدين والعمل بالسنن، والتضييق على الصالحين والمتمسكين بالسنة،
والعلماء، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وبالمقابل التمكين لأهل الفسق والفجور
والإلحاد، مما يعد أعظم استفزاز لذوي الغيرة والاستقامة.

خامساً:
الجهل بالعلم الشرعي، وقلة الفقه في الدين: فالمتأمل
لواقع أكثر أصحاب التوجهات التي يميل أصحابها إلى الغلو والعنف والتكفير يجد أنهم يتسمون
بالجهل بقواعد الشريعة وضعف الفقه في الدين، وضحالة الحصيلة في العلوم الشرعية [1]، فحين يتصدون
للأمور الكبار والمصالح العظمى يكثر منهم التخبط والخلط والأحكام المتسرعة والمواقف
المتشنجة، والحكم بالأهواء والعواطف، في الأشخاص والهيئات والدول والجماعات، والحدّة
تجاه المخالفين.

وجماع
ذلك أن أصحاب الغلو والتكفير يجمعون بين الجهل والهوى والظلم، وقلة البصيرة في قواعد
الشرع وعواقب الأمور.

سادساً:
الجفوة بين العلماء والشباب [2]
(وبين الشباب والمسؤولين):

ففي
أكثر بلاد المسلمين تجد العلماء (بعلمهم وحكمتهم وفقههم وتجاربهم) في معزل عن أكثر
الشباب، وربما يسيئون الظن بالكثير منهم، وفي المقابل تجد الشباب بحيويتهم ونشاطهم
وهمتهم بمعزل عن العلماء، وربما تكون سمعتهم في أذهان الكثيرين على غير الحقيقة، وبعض
ذلك بسبب انحراف التربية لدى بعض الجماعات التي تقوم مناهجها على عزل الشباب عن علمائهم،
وشحنهم ضد ولاتهم، وبسبب وسائل الإعلام المغرضة التي تفرق بين المؤمنين، مما أوقع بعض
الشباب في الأحكام الخاطئة والتصرفات الجائرة التي لا تليق تجاه علمائهم، وتجاه حكامهم.

وكذلك
يوجد حاجز نفسي كبير بين النخبة من الشباب، وبين العلماء والمسؤولين، تجعل كلاً منهم
يسيء الظن بالآخر، ولا يفهم حقيقة ما عليه الآخر إلا عبر وسائط غير أمينة غالباً، ومن
هنا يفقد الحوار الجاد وحسن الظن الذي هو أساس التفاهم والإصلاح.

ويلحق
بذلك تهميش كثير من الدول والحكومات لدور العلماء الراسخين المخلصين والتقليل من شأنهم
بل ربما التضييق عليهم، مما حجب الشباب والعامة عنهم.

سابعاً:
الخلل في مناهج بعض الدعوات المعاصرة:

فأغلبها
تعتمد في مناهجها على الشحن العاطفي، وتربي أتباعها على مجرد أمور عاطفية غير منضبطة
بضوابط الشرع وقواعد الدين، أو غايات دنيوية: سياسية واقتصادية ونحوها، وتحشو أذهانهم
بالأفكار والمفاهيم التي لم تؤصَّل شرعاً، والتي تؤدي إلى التصادم مع المخالفين بلا
حكمة. وهي في الوقت نفسه قد تقصِّر في أعظم الواجبات، فتنسى الغايات الكبرى في الدعوة،
من غرس العقيدة السليمة، والفقه في دين الله تعالى، والحرص على الجماعة وجمع الكلمة
على العلماء وأهل الحل والعقد، وتحقيق الأمن، والتجرد من الهوى والعصبية، وفقه التعامل
مع العلماء والولاة والعامة، ومع المخالفين ومع الأحداث، وفق قواعد الشرع، والتورع
عن القول على الله بغير علم، وعن الخوض في أعراض الآخرين.

ثامناً:
ضيق العطن وقصر النظر وقلة الصبر وضعف الحكمة:

ونحو
ذلك مما هو موجود لدى بعض الشباب، فإذا انضاف إلى هذه الخصال ما ذكرته في الأسباب الأخرى؛
من سوء الأحوال، وشيوع الفساد، والإعراض عن دين الله، والظلم، ومحاربة التدين، وفقدان
الحوار الجاد، أدى ذلك إلى الغلو في الأحكام والمواقف.

تاسعاً:
تصدر حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام:

وأشباههم
للدعوة وتوجيه الشباب بلا علم ولا فقه، فاتخذ بعض الشباب منهم رؤساء جهالاً، فأفتوا
بغير علم، وحكموا في الأمور بلا فقه، وواجهوا الأحداث الجسام بلا تجربة ولا رأي ولا
رجوع إلى أهل العلم والفقه والتجربة والرأي، بل كثير منهم يستنقص العلماء والمشايخ،
ولا يعرف لهم قدرهم، وإذا أفتى بعض المشايخ على غير هواه ومذهبه، أو بخلاف موقفه أخذ
يلمزهم إما بالقصور أو التقصير، أو بالجبن أو المداهنة أو العمالة، أو بالسذاجة وقلة
الوعي والإدراك! ونحو ذلك مما يحصل بإشاعته الفرقة والفساد العظيم، وغرس الغل على العلماء،
والحط من قدرهم ومن اعتبارهم، وغير ذلك مما يعود على المسلمين بالضرر البالغ في دينهم
ودنياهم.

قال
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كباركم،
فإذا كان العلم في صغاركم سفه الصغير الكبير" [3]، وقال عمر
بن الخطاب رضي الله عنه: "ألا وإن الناس
بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم، ولم يقم الصغير على الكبير فإذا قام الصغير على الكبير
فقد" يعني فقد هلكوا"[4].

عاشراً:
التعالم والغرور:

وأعني
بذلك أنه من أسباب ظهور الغلو والعنف في بعض فئات الأمة اليوم ادعاء العلم من الكثيرين،
في حين أنك تجد أحدهم لا يعرف بدهيات العلم الشرعي، والأحكام، وقواعد الدين، ونصوصه،
أو قد يكون عنده علم قليل بلا أصول ولا ضوابط ولا فقه ولا رأي سديد، ويظن أنه بعلمه
القليل وفهمه السقيم قد حاز علوم الأولين والآخرين، فيستقل بغروره عن العلماء، وينأى
بنفسه عن مواصلة طلب العلم، فَيَهْلكُ ويُهْلِكُ. وهكذا كان الغلاة الأولون يدَّعون
العلم والاجتهاد، ويتطاولون على العلماء، وهم من أجهل الناس، ولذلك خرجت منهم الأهواء
والفرق كالخوارج. ويلحق بذلك أن من أسباب التعالم والغرور لدى بعض الغيورين والصغار
والمبتدئين والمثقفين، تقصير بعض العلماء وطلاب العلم في سد حاجة الشباب وعامة الأمة،
في نشر العلم والفقه في الدين وتبصير الناس والتصدي لمشكلات المجتمع والأمة، فينبري
أولئك المتعالمون للفتوى والتصدي للمسائل الكبرى دون أهلية ولا بصيرة ولا حكمة.

حادي
عشر: التشدد فـي الدين والتنطع:

والخروج
عن منهج الاعتدال في الدين الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حذر النبي
صلى الله عليه وسلم من ذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)[5].

والتشدد
في الدين كثيراً ما ينشأ عن قلة الفقه في الدين، وهما من أبرز سمات أهل الأهواء عموماً
والخوارج بخاصة، أعني التشدد في الدين وقلة الفقه، وأغلب الذين ينزعون إلى الغلو والعنف
والتكفير اليوم تجد فيهم هاتين الخصلتين، ولا يلزم من ذلكم أنهم خوارج، لكنهم وافقوا
الخوارج في هذا المسلك، وربما زادوا عليهم.

ثاني
عشر: شدة الغيرة وقوة العاطفة لدى فئات من الشباب والمثقفين وغيرهم:

بلا
علم ولا فقه ولا حكمة، مع أن الغيرة على محارم الله وعلى دين الله أمر محمود شرعاً،
لكن ذلك مشروط بالحكمة والفقه والبصيرة، ومراعاة المصالح، ودرء المفاسد. فإذا فقدت
هذه الشروط أو بعضها أدى ذلك إلى الغلو والتنطع والشدة والعنف في معالجة الأمور، وهذا
مما لا يستقيم به للمسلمين أمر، لا في دينهم، ولا في دنياهم.

ثالث
عشر: فساد الإعلام:

والإعلام
في العصر الحديث صار -غالباً- مطية الشيطان إلى كل فتنة وضلالة وبدعة ورذيلة؛ فإن وسائل
الإعلام في أكثر البلاد الإسلامية غالباً ما تسخَّر في سبيل الشيطان، وهي من خيله ورجله
في الدعوة إلى الضلالة، ونشر البدعة والزندقة، وترويج الرذيلة والفساد، وهتك الفضيلة،
وحرب التدين وأهله، وبالمقابل نجد أن إسهام الإعلام في نشر الحق والفضيلة قليل وباهت
جداً، ولا شك أن هذا الوضع منكر عظيم ومكر كبّار، ويعد أعظم استفزاز يثير غيرة كل مؤمن
وحفيظة كل مسلم، فإذا اقترن ذلك بشيء من قلة العلم والحلم والصبر والحكمة، وغياب التوجيه
الشرعي السليم، أدَّى ذلك لدى بعض الشباب إلى الصَّلف والقسوة في الأحكام والتعامل،
وإلى الإحباط والتشاؤم واليأس لدى البعض الآخر، فيندفع إلى التغيير بعنف. لذا فإن علاج
هذه الظواهر لن يكون حاسماً إلا بإزالة أسبابها.

ج-
أهم أسباب الغلو والتكفير في المجتمع السعودي الحديث [6]:

تفريعاً
عما سبق بيانه من أسباب الغلو آنفاً فقد ظهرت في المملكة العربية السعودية في السنوات
الأخيرة بعض مظاهر الغلو والتكفير، ونتج عنها الخروج على الأصول والثوابت الشرعية من
البيعة والطاعة والجماعة وحفظ الأمن، ونحو ذلك، ثم نتج عن هذا وغيره استباحة العنف
والفساد في الأرض، والبغي، من التفجيرات، وإزهاق الأرواح المعصومة من المعاهدين ورجال
الأمن وغيرهم.

وأسباب
ذلك توافق في غالبها الأسباب العامة للغلو، إلا أن المملكة؛ لما تميزت به من طابع شرعي
إسلامي واضح؛ فنظام الحكم في المملكة العربية السعودية إسلامي وشعائر الإسلام فيها
ظاهرة: القضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإقامة الصلاة، وإظهار
السنن، وإزالة البدع، واشتمالها على المقدسات، كل هذه الأمور وغيرها تنفي عنها ذرائع
الغلاة.

ومع
ذلك وإسهاماً في علاج هذه الظواهر الغالية يمكن أن نلخص أهم أسباب الغلو والتكفير وذرائعه
في المجتمع السعودي بما يلي:

1-
هناك سبب شرعي، وكوني، وأزلي، وتاريخي، في حصول الفتن والفرقة، والتنازع في الدين والدنيا،
وظهور الغلو، وينشأ عنه القتال، وانفلات الأمن، وشيوع الخوف والفوضى، ألا وهو الإعراض
عن شرع الله وذكره وشكره، وظهور البدع والفساد والظلم والمعاصي والمنكرات والتطاول
على الدين وأهله من قبل أهل النفاق والشقاق، ونحو ذلك مما يستجلب العقوبة من الله تعالى.
وكل الأسباب تؤول إلى هذا السبب، كما قال تعالى: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ
لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124)

2-
ضعف قدرة بعض الجهات المسؤولة على بيـان الأسس الشرعية التي تقوم عليها قــرارات الدولــة،
وأنظمتها ومواقفها، وتصريحــات المسؤولين فيها وما ينطلق منه وتعتمد عليــه من الفتـاوى
المعتبرة، ونظام الحكم (وهو إسلامي جيد بحمد الله) والبيعة، ونحو ذلك.

3-
ضعف أو رداءة صياغة البيانات والقرارات الرسمية والخطاب الإعلامي وعجزها عن التعبير
عن الوجهة الشرعية لمواقف الدولة وقراراتها، بل إن كثير من تعبيرات وسائل إعلامنا عن
هذه الأمور قد يثير السخرية، وهذا مما جعله في كثير من المواقف المهمة يفقد مصداقيتــه
لدى الأصدقاء والعقلاء، فكيف بالخصوم والسفهاء وهم كثيرون.

4-
عدم تجلية موقف الدولة من قضايا حساسة قد تغذي التكفير والغلو والتطرف لدى المغرضين
والجاهلين، وتحاكم فيها الدولة غيابياً من قبل خصومها، ويجعلون صمتها ذريعة للإدانة
بزعمهم، مثل:

-
وجود غير المسلمين في البلاد.

-
مسألة الاستعانة بالكفار وإعانتهم وما نسج حولها من مزاعم ودعاوى كثيرة.

-
صدور بعض الأنظمة التي يقال أنها تخالف الشرع، وأنها حكم بغير ما أنزل الله، كنظام
التأمينات، ومعاشات التقاعد، والجمارك، والمحاكم التجارية والعسكرية ونحوها.

-
إقرار البنوك الربوية وحمايتها.

-
اشتراك الدولة في بعض المنظمات والعقود والعهود والأنظمة الدولية المخالفة للشرع.

-
وكذلك بعض القرارات والمواقف الأخيرة للدولة، مثل التأمين على الرخصة، وبعض أساليب
تحية العلم، ومثل توجهات السياحة إلى مواطن البدع في الآثار (وهذه قضية حساسة جداً)،
قد تتعارض بعض صورها مع ثوابت الدين والسنة التي قامت عليها الدولة في هذه البلاد [7].

وهذه
الأمور أغلبها إما أن يكون للدولة فيها مسوّغ شرعي، أو اعتمدت فيها على فتاوى معتبرة
أو غير معتبرة، لكن يجهلها أو يتجاهلها المشنون عليها، وبعضها لا وجود له حقيقة، بل
هو مبني على الشائعات وعدم التثبت، والمبالغات، والجهل بحقائق الأمور، وبعض آخر يكون
خطأ، لكن للدولة فيها عذر أو تأويل.

نعم
هناك أخطاء وقعت فيها الدولة حقاً لكن من غير قصد معارضة الدين، فيجب أن يُرجع فيها
إلى الحق... وهكذا فعدم تأصيل هذه الأمور شرعاً وإيضاح حقيقة ذلك ترك فرصة للمغرضين
والجاهلين للنيل من شرعية الدولة واتهامها بالعظائم الكبار. وهذا وسنستكمل مناقشة هذه
الشبهات بعد قليل مع (منهج الغلاة التكفيريين).

5-
ظهور بعض القرارات والظواهر الاستفزازية التي لم تكن مناسبة مثل أساليب بعض المسؤولين
بوزارة التربية والتعليم في تغيير المناهج الشرعية، ومحاولة النيل من سياسة التعليم،
وظهور بعض الأمور الاستفزازية في وسائل الإعلام الرسمية، كما في بعض البرامج التمثيلية!
وبعض المقالات في الصحف المحلية التي تجرح العقيدة والدين، وتهز المسلمات الشرعية،
وتطعن في السلف الصالح عموماً، وفي دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (التي هي أصل شرعية
الدولة السعودية عند أهل السنة في كل العالم)، وتلمز الصالحين والمتدينين، ونحو ذلك
مما يتخذه أهل الغلو ذرائع للفتنة والتكفير، وشحن عواطف الناس -ولا سيما الشباب- ضد
الدولة والعلماء والمجتمع.

6-
التحول الاجتماعي والرسمي السريع إلى أمور غير محمودة (مثل مظاهر التحلل ونزع الحجاب
والاختلاط) كما في بعض المستشفيات، وبعض المؤسسات، وشيوع كثير من المنكرات والممارسات
المنافية للدين والأخلاق والفضيلة، مع ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الارتقاء
بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوعاً وكماً لتؤدي الواجب على نحو رزين [8].

ملحوظة
مهمة وضرورية:

قـد
يتجرأ بعض الجاهلين ومن في قلوبهم مرض إلى اتهام المناهج الدراسية في التعليم في المملكة
.. (بمراحلــه أو بعضها) بمسانـدة الغلو والتكفير، وهذه دعوى عريَّة من البرهان.

والحق
أن المناهج بجملتها تقرر الاعتدال والوسطية، وتربي الشباب على رعاية الحقوق المشروعة
من حب الله ورســوله صلى الله عليه وسلم والإســلام والسلف الصـالح، ورعاية حقوق الولاة
والعلماء والآباء والمعلمين، وترسم منهج الاعتدال في القلوب والعقول، والمواد التي
تدرس في مناهجنا شاهدة بذلك، لكن حسبنا الله ونعم الوكيل.

تذكير
الغلاة بوصايا النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهم وأمثالهم:

النبي
صلى الله عليه وسلم حذر أمته من الغلو في الدين ومن الفتن، وحذر من أفعال مستحلي الدماء،
والذين يضربون (يقاتلون) البر والفاجر والمعاهد، وقد صح الكثير من النصوص في هذا الأمر،
وأسوق الآن بعض الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي هي نص في هذه المسألة
وفي هذه الأحداث التي تحصل من الغلاة، من ذلك:

قوله
صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا)[9].

وقوله
صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية...)
[10].

وقوله
صلى الله عليه وسلم: (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق
جماعتكم فأقتلوه)[11] وقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئاً
يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة جاهلية)[12].

وقوله
صلى الله عليه وسلم: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات
وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)[13].

ونظراً
إلى أن كثيراً مما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وقعوا فيه ولأن كثيراً
من أحوالهم وأعمالهم تشبه أحوال وأعمال الخوارج من وجه، وأعمال البغاة والمحاربين من
وجوه أخرى، فإني مذكرهم بالله تعالى ومحذرهم من الوقوع بما قاله وأمر به النبي صلى
الله عليه وسلم بشأن الخوارج. وأسأل الله لي ولهم الهداية والسلامة والعافية.

منهج الغلاة التكفيريين

يثير
الغلاة التكفيريون في ذرائعهم للتكفير والغلو والعنف واستباحة التخريب والدماء المعصومة
شبهات كثيرة ترجع غالباً إلى أصول واحدة في التلقي والاستدلال والتطبيقات واللوازم
والنتائج، والمتأمل لمنهجهم العلمي والعملي في اجتهاداتهم وأحكامهم يجد أنه يسير -غالباً-
على منهج أهل الأهواء عموماً، ويشبه منهج الخوارج بشكل أخص، وإليك بيان شيء من ذلك:

خصائص
منهج الغلاة التكفيريين وسماته:

1-
ضعف جانب التبيّن والتثّبت في كثير من الأحوال التي حكموا بسببها بالكفر على الدولة
أو الأفراد، ولا أعرف أحداً أثبت أنه توصل إلى يقين في الدعاوى التي حكموا بسببها بالكفر، وربما يقول بمقاله أو
لسان حاله: هذا مستفيض، هذا مشهور، وقيل، وقالوا، ونحو ذلك، وعلى هذا فإن بعض القضايا
والأحوال التي زعموا أنها مكفرة إما أنها لا تثبت، أو أنها تثبت على غير ما توهموا،
أو أنها تثبت فعلاً لكنهم أخطأوا في تطبيق القواعد والمنهج في الحكم بالكفر على المعيّن،
كما سيأتي بيانه.

2-
يقوم منهجهم -غالباً- على التأويل المتكلف، وحمل أفعال من يحكمون عليهم على أسوأ المحامل.

3-
يجهلون قواعد الاستدلال، وبعضهم يدفعه الهوى والتهور إلى التغافل عن إعمال القواعد
الضرورية في الاستدلال، فقلما يجمعون بين الأدلة، ولا يردون المتشابه إلى المحكم، ولا
يعتدون بفقه السلف، ولا بفتاوى العلماء المعتبرين (إلا حين يكون لهم فيها شبهة أو متعلق
يخدم غلوهم). ولعل من أوضح الأمثلة لذلك استدلالاتهم على استحلال الدماء المعصومة بمثل
حديث: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) في حين أنهم يعلمون أن للصحابة والتابعين وأعلام
الأمة إلى يومنا هذا فقهاً للحديث يناقض فقههم.

4-
وكذلك يجهلون (وبعضهم يحمله الهوى على تجاهل) قواعد التكفير، وشروط تكفير المعيّن
.

5-
لا يراعون الفوارق الشرعية والطبيعية، ولا السنن الإلهية في تقدير الأمور وعواقبها؛
بسبب الاندفاع العاطفي غير المتزن، والغيرة غير المنضبطة بضوابط الشرع.

6-
لا يستفيدون -بسبب انغلاقهم- من الحوادث والتجارب والدروس والعبر التاريخية التي حدثت
من أسلافهم سواء من أهل الأهواء (كالثوار على عثمان رضى الله عنه والخوارج وجماعة التكفير
والهجرة، وجماعة الجهاد) أو الجماعات المتهورة في الجزائر وغيرها، أو غيرهم من المتهورين
والمتعجلين، أو الذين أخطأوا مجتهدين أو غير مجتهدين، كأصحاب الحرة، وضحايا فتنة ابن
الأشعث، والعديد من أئمة آل البيت الذين استهوتهم الغوغاء والشيع وغيرها؛ للخروج على
بني أمية وبني العباس، فلم يفلح منهم أحد وهم يقاربون الأربعين.

ثم
ملحمة (الإخوان) في السبلة حين لم يصغوا لنصيحة العلماء والمشايخ، ثم ملحمة جماعة
(جهيمان)، وقد عرفنا كثيرين منهم كانوا أصلح وأعلم وأعقل من أكثر الغلاة اليوم، ومع
ذلك حين تجاهلوا نصح العلماء والناصحين، وخرجوا على السلطان والجماعة، حدثت منهم تلكم
(الباقعة) التي لم يحدث مثلها في الحرم في تاريخ الإسلام -فيما أعلم- إلا من القرامطة
الباطنية، وكل مستبصر يعلم أن أغلب الدوافع التي تذرَّع بها أولئك هي الدوافع التي
يتذرع بها هؤلاء اليوم؛ مما يزعمون أنه: استحلال الربا، ووجود بعض الأنظمة المخالفة
للشرع، والعلاقات الدولية، والمشاركة في المنظمات والتحالفات، والمنكرات والمفاسد،
ونحوها، مما هو حاصل أو غير حاصل.

نعم
قد توجد بعض هذه الأخطاء والمفاسد، لكن الشأن في المنهج الشرعي السليم في إثبات الدعاوى
والحكم فيها وطرق الإنكار والتغيير التي خالفوا فيها نهج السلف الصالح الذي عليه علماؤنا
وذوو العقل والحكمة والرأي والتجربة.

7-
غالبيتهم يحكمون في الأمور الكبار وعلى الدولة والعلماء والمعنيين، بلا علم راسخ، ولا
أهلية للاجتهاد، ولا رجوع للراسخين وأهل الاجتهاد، بل إن شيوخهم منهم كعادة أهل الأهواء،
لكنهم قد ينتحلون من أهل العلم من يوافقهم على بعض أمورهم، أو يتعاطف معهم عن جهل بحقيقتهم،
أو هوى، أو تشفٍّ، أو نحو ذلك مما يعتري البشر.

كما
أنهم قـد يـوجد بينهم من لديـه علم، لكنه مصاب بأدوائهم من الغلو والهوى والعنف، فـلا
يتحـرى للحـق، وتعمى بصيرتــه عـن الهـدى، نسـأل الله العافية.

8-
يجهلون (وقد يتجاهل الكثير منهم) الأصول الكبرى والقواعد العظمى التي قررها الشرع،
واتفق عليها سلف الأمة، مثل:

-
درء المفاسد مقـدم عـلى جلب المصالح: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن:
من الآية16)

-
المشقة تجلب التيسير (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما)[14].

-
(سددوا وقاربوا) [15].

-
(وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) [16].

-
(إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) [17].

-
(ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) [18].

-
(إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطى على العنف ومالا يعطي على سواه)[19].

9-
يقوم اعتقادهم ومنهجهم ومواقفهم على تجاهل الأصول والثوابت الشرعية في هذه البلاد
(المملكة) والتنكر لها، ومن هذه الثوابت:

-
مرجعية العلماء، فلا يرعون للعلماء حقهم، ولا يرجعون إليهم كما أمر الله تعالى.

-
حقوق الجماعة، فلا اعتبار عندهم للجماعة بمفهومها الشرعي العظيم.

-
حقوق أهل الحل والعقد من العلماء والأمراء، والوزراء، وقادة الجيوش، ورؤساء القبائل
والعشائر، وأهل الرأي والمشورة، وسائر من لهم حق الاعتبار والاحترام؛ إما لعلمه، أو
لإمارته، أو لمنزلته الاجتماعية [20]، أو لوجاهته،
كل هؤلاء لا قيمة ولا قدر ولا اعتبار لهم عند كثيرين من الغلاة. وقد يظهر بعضهم خلاف
ذلك؛ لضرورة المعايشة والمداراة، وليسوا فقط ينكرون هذا الأصل والحق والاعتبار، بل
يطلقون التكفير والصفات غير اللائقة، ويسخرون بالحكام والعلماء ومن دونهم بعبارات لا
تصدر ممن يحترم نفسه فضلاً عن أن يحترم من له حق الاحترام، ومن ذلك أن بعضهم يصف كبار
العلماء بـ(كبار العملاء)!

-
السمع والطاعة بالمعروف وفي المنشط والمكره في غير معصية الله، كما أوصى النبي صلى
الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك،
وأثرة عليك) [21]،
وقال صلى الله عليه وسلم: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر
بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)[22].

-
البيعة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (... ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة
جاهلية) [23]
ومن فضل الله علينا أن تحققت البيعة في هذه البلاد من قبل أهل الحل والعقد.

-
النصيحة: وهي من مباني الدين العظيمة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(الدين النصيحة) (ثلاثاً) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله تعالى ولرسوله صلى الله
عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم) [24]، والنصيحة
لأئمة المسلمين هي بذل النصح للعلماء والولاة وكل من له ولاية على شؤون الأمة بالتسديد
والمشورة، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق، والسمع والطاعة لهم بالمعروف، وجمع الشمل
حولهم، ودفع ما يحصل منهم من ظلم وجور وفسوق بالحكمة، حيث يعالج بالطرق والوسائل المشروعة:
(ولا تنزع يداً من طاعة) [25]، فأمر الله
ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك حق لا محيد عنه، ولن يجد المسلم أثمن ولا أسلم
عاقبة في الدنيا والآخرة من هذه الوصايا من الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم، ولأئمة
السلف من المواقف تجاه ولاة الأمور الذين يرتكبون العظائم ما فيه القدوة والسداد والرشاد، كابن عمر وأنس بن مالك رضي الله
عنهما، وكالإمام مالك والإمام أحمد وابن تيمية وغيرهم، وهــؤلاء الغــلاة اليوم تجاوزوا
حـدود الشرع، وعارضوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسبيل المؤمنين ونهج السلف الصالح
في هذه الأمور وغيرها.

-
الصبر: والصبر مطلـب شرعي ضروري أمـر الله بـه، وأوصــى به رسـوله صلى الله عليه وسلم
كما قال تعالى: ( وَالْعَصْرِ* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (العصر:1-3)

وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)

ونص
النبي صلى الله عليه وسلم كما أسلفت على الصبر على الجور والظلم والأثرة من الولاة
خاصة؛ لأن في تجاوز ذلك من المفاسد والفتن ما هو أعظم في الدين والدنيا. فقد صح عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان
شبراً مات ميتة جاهلية) [26].

-
حفظ الأمن: والأمن مطلب ضروري جاء الإسلام برعايته وحفظه؛ لأنـه لا يستقيم للمسلمين
دينهم ولا دنياهم إلا بــالأمن، فلا يمكن حفظ الضرورات الخمس التي جاء الإسلام برعايتها
إلا بالأمـن، وهي: الدين، والنفس، والنسب (العرض)، والمــال، والعقل، وهذا (والله أعلم)
من أعظم أسباب تحريم المنازعة والخروج على ولاة الأمر، لكن الغلاة في كل زمان لم يفقهوا
هذه الحقائق والمصالح الكبرى.

-
ودرء المفاسد العظمى: وهو مقدم على جلب المصالح [27]، فالغلو
في الدين، والتكفير، واستحلال الدماء، والفساد في الأرض، والإخلال بالأمن، وترويع الآمنين،
والخروج على الجماعة (وعلى رأسهم العلماء) والخروج عن الطاعة، كل هذه الأمور ونحوها
مفاسد كبرى، والإخلال بها فساد عظيم، عواقبه وخيمة في الدين والدنيا، وأما الغلاة فزعموا
أن انتهاك هذه الأمور جهاد [28]! نسأل الله
أن يبصرنا وإياهم بالحق، ويردهم إلى جادة الصواب.

-
ومن الثوابت التي يجهلها كثيرون من الغلاة وغيرهم -ويتجاهلها آخرون- نظام الحكم المعلن
عام 1412هـ والذي أصَّل شرعية النظام واعتماده على مصادر الإسلام وثوابت الدين، وأصول
العقيدة والسنة، وفي المبحث التالي أسوق نماذج من مواد هذا النظام.

10- يعتمد أسلوبهم ومنهجهم في جمع المعلومات وتحليلها
والحكم عليها وعلى خصومهم من خلالها، على المبالغات والتهويل، والإلزامات، والخلط بين
الحقيقة والخيال، وبين الصدق والبهتان، وبين الواقع والأوهام، والتناقضات العجيبة.

11-
قادهم الغلو والإخلال بالأصول المعتبرة شرعاً وعقلاً إلى الجرأة على التكفير واستحلال
الدماء والأموال، والفساد في الأرض، ووسائل العنف من التفجيرات والقتل الجماعي والفردي.

12-
أنهم مصابون بعقدة الإسقاط، وعقدة المؤامرة والتشاؤم واليأس، والنظرة السوداوية لسائر
الأمور، وسوء الظن، وافتراض (بل واعتقاد) أسوأ الاحتمالات وأقسى الأحكام، وأصعب الحلول
في سائر الأمور، حتى مع أنفسهم أو مع بعضهم، حتى اشتدوا وغلوا في الدين (ولن يشاد الدين
أحد إلا غلبه)[29].

فحالهم
وتصرفاتهم تدل على أنهم غلَّبوا جانب التشدد والتشاؤم واليأس، وأنهم يئسوا من رحمة
الله أو يكادون، ثم يئسوا من صلاح المشايخ وعطفهم، وصلاح الدولة وعطفها [30]، ومن صلاح
المجتمع وعطفه، ولذلك ارتكبوا أبشع التصرفات وعظائم الأمور، زاعمين أن هــذا هــو ســبيل
الصــلاح والإصلاح، وذلك حين جهلوا (أو تجاهل بعضهم) قواعد الشرع التي سبق ذكر شيء
منها، نسأل الله العافية والهداية لنا ولهم ولجميع المسلمين.

[1] - قد يوجد بين الغلاة المعاصرين طلاب علم متمكنون،
لكنهم استحكم فيهم الهوى، أو أخطاؤا فحادوا عن منهج العلماء الراسخين وسبيل المؤمنين
نهج السلف الصالح.

[2] - جاء في تعليق لمعالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
على هذه الفقرة قوله: "الجفوة سببها في الغالب ما يثيره أصحاب الدعوات الحزبية
من أن العلماء لا يفهمون فقه الواقع، وأنهم علماء حيض ونفاس، وأنهم علماء سلطة ...
" أ. هـ.

[3] - جامع بيان العلم 1/159.

[4] -المصدر السابق 1/158.

[5] - صحيح البخاري برقم (39).

[6] - كل هذه الأسباب والتي سبقتها ليست وليدة هذا العصر،
فقد حدث الكثير منها وما يشابهها في عهود السلف قديماً وحديثاً، وكانوا يواجهون هذه
المشكلات وأمثالها بموجب القواعد الشرعية التي تقوم على البيان والمناصحة والإنكار
بالحكمة والصبر والحلم والتسديد، والدفع بالتي هي أحسن، دون اللجؤ إلى الأساليب التي
حرمها الشرع من المصادمة والغلو والعنف ونحو ذلك مما يكون فيه من الأضرار والمفاسد
الكبرى ما يتنافي مع مقاصد الإسلام وأصوله وقواعده، ومع نهج السلف الصالح في أساليب
التغيير والإنكار، وحين نعرض لهذه الأسباب في هذا المقام ونحوه لا يعني ذلك أن نسوِّغ
للغلاة أساليبهم التي يسخدمون فيها العنف وارتكاب المفاسد العظمى من القتل والتخريب
وانتهاك الحرمات والاخلال بالأمن ونحو ذلك مما لا يقره عاقل كما بينت في الفصول التالية.

[7] - ستأتي مناقشة هذه المسائل في مبحث: (أهم شبهاتهم
وبيان حقيقتها).

[8] - في أثناء إعداد مادة هذا البحث صدر أمر ملكي بإنشاء
المعهد العالي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه خطوة مباركة ومشكورة نرجو إن شاء
الله أن تؤتي ثمارها في الارتقاء بهذه الشعيرة العظيمة.

[9] - صحيح البخاري رقم (874) ومسلم (98).

[10] - صحيح مسلم الحديث (1848).

[11] - صحيح مسلم الحديث رقم (1852).

[12] - صحيح البخاري رقم (6031) مسلم برقم (1849).

[13] - صحيح مسلم برقم (1851).

[14] - صحيح البخاري برقم (3296)، صحيح مسلم (4294).

[15] - صحيح البخاري برقم (6464) ومسلم (2818) وصحيح الجامع
الصغير (3522).

[16] - صحيح الجامع الصغير (2677).

[17] - صحيح البخاري برقم (39)، سنن النسائي برقم
(4948).

[18] - صحيح الجامع الصغير برقم (5530) وأخرجه مسلم برقم
(2594) بلفظ: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ...) الحديث.

[19] - صحيح مسلم رقم الحديث (4693).

[20] - في غزوة حنين جاءت هوازن بعد قسمة الغنائم تطلب
ردّ الأموال والسبي فخيرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما فاختاروا السبي فخطب الرسول
صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: "إن أخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين وإني أردت أن
أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيّب ذلك فليفعل ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه
إياه من أول ما يفئ الله علينا فليفعل فقال الناس: طيبنا يا رسول الله لهم فقال لهم:
إنا لا ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن فأرجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع
الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبون وأذنوا"
(انظر قواعد في التعامل مع العلماء لعبدالرحمن اللويحق ص123)، فقد جعل الرسول صلى الله
عليه وسلم مرد معرفة آراء العوام إلى العرفاء ورؤوس الناس (رواه البخاري في صحيحه برقم
(2417). .

[21] - صحيح مسلم (1836) وصحيح الجامع الصغير (3927).

[22] - سبق تخريجه.

[23] - صحيح البخاري (7144) ومسلم برقم (3423).

[24] - سبق تخريجه.

[25] - انظر الحديث في صحيح مسلم برقم (1855).

[26] - صحيح البخاري برقم (7053) ومسلم برقم (3439).

[27] - وهذه قاعدة عظيمة فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح
لأن إعتناء الشرع بالمنهيات بتركها أشد من إعتنائه بالمأمورات، وهذا الأصل شامل لجميع
الشريعة لا يشذ عنه شيء من أحكامها لا فرق بين ما تعلق بالأصول وما تعلق بحقوق الله
وحقوق عباده.

(شرح القواعد والأصول الجامعة لابن عثيمين رحمه
الله) بتصرف. وانظر الموافقات للشاطبي 2/5، قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن
عبدالسلام ص 21.

[28] - والحق الذي أدركه كل عاقل وضعف أن المفاسد والأضرار
التي حصلت بسبب هذه الأساليب؛ من التفجيرات وإهدار الدماء والإخلال بالأمن لا تكاد
تحصى ومنها الإضرار بالدعوة والأعمال الخيرية وتعويقها، ثم أي فائدة عادت على المسلمين
في دينهم أو دنياهم من هذه التصرفات؟! فإن أصحابها للدين نصروا ولا لخصومهم كسوا، وما
تغير بفعلهم منكر ولا تقرر به معروف أو حق.

[29] - سبق تخريجه.

[30] - وقد أعلنت الحكومة -وفقها الله للخير- العفو عمن
يسلِّم نفسه من المطلوبين ونحوهم، ولمدة كافية لمن هداه الله واستبصر.

أهم
شبهاتهم وبيان حقيقتها بإيجاز

ليس بالإمكان تقصي شبهاتهم ودعاويهم ومنازعهم والرد
عليها بالتفصيل [1]
في هذه النبذة الإسعافية العاجلة.

لكني
وبعض المختصين بصدد الإعداد لكتاب أوفى لعله يكون أكثر توسعاً في الاستدلال والرد والأمثلة،
(إن شاء الله) ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهو حسبنا ونعم الوكيل.

وقبل
أن أسرد بعض تلكم الشبهات والمواقف أجدني ملزماً ببيان الأمور التالية:

1-
التأكيد على ما أشرت إليه في المقدمة من أن أهل الغلو يتفاوتون، فمنهم الرؤوس والدعاة
والمنظرون لهذا المنهج، وهؤلاء هم الأقل عدداً، لكنهم هم المقصودون والمعنيون بأكثر
ما قلته، وأشرت إليه في هذا ا لبحث وغيره، لكن الأكثرية إنما هم من الأتباع والغوغائية
والمغرر بهم لا سيما من (حدثاء الأسنان) وقليلي العلم والفقه، والذين غالباً يتسمون
بالاندفاع العاطفي غير المرشَّد، والغيرة التي لا تنضبط بضوابط الشرع، ولا تهتدي بنهج
العلماء الراسخين.

2-
أنهم ليسوا على درجة واحدة من حيث الغلو والتنطع، فمنهم من يكفر بالجملة، ومنهم من
يفصِّل ويفرِّق، ومنهم المتعاطف الذي يجاريهم على جهل، أو عن هوى، وقد دخل فيهم من
أهل الأهواء والمشبوهين والحساد، وربما الاستخبارات الأجنبية من يسعر نار الفتنة وهم
لا يشعرون.

3-
وأن من دعاويهم وأقوالهم ما هو صحيح، من وجود المنكرات وكبائر الذنوب، بل الكفريات
أحياناً التي يفعلها أو يقول بها من لا خلاق لهم، أو الجاهلون، أو المكرهون، وكذلك
تنامي مظاهر الفسق والعلمنة والبدع، وكثير من المفاسد الكبيرة في العقائد والأحكام
والأخلاق على جميع المستويات. كل ذلك وغيره نوافقهم على ما يُثْبَتُ منه.

لكنهم
بالغوا في كثير من الأمور، وزعموا أموراً لا حقيقة لها، ثم جانبوا طريق الصواب ونهج
السلف الصالح في بعض أحكامهم الجائرة، وفي غلوهم في الحكم على الأعيان بالتكفير، وفي
أسلوب التغيير، حين سلكوا طريق العنف في ذلك، وفي افتياتهم على العلماء وأهل الحل والعقد،
وتجاهلهم للأصول المقررة والمعتبرة شرعاً من الجماعة والسمع والطاعة، وحق البيعة، وحفظ
الأمن، ودرء المفاسد، والنصيحة، والصـبر والمصـابرة والمرابطة، وتقـوى الله سبحانه،
وتاج ذلك كله كما قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)

وقد
فسر النبي صلى الله عليه وسلم الصبر في هذا الباب؛ لئلا يترك الأمر للمتأولين والمحرفين،
فبين أن منه الصبر على التزام الجماعة، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، والصبر على
جور الولاة، والصبر على الأثرة والظلم، ونحو ذلك، كما سبق بيانه، لكني كررته لأهميته
وخطورة تجاوزه عليهم وعلى الإسلام والمسلمين.

أما
أبرز ذرائعهم وشبهاتهم، فمنها مع الإجابة عليها بإيجاز:

الشبهة الأولى: أصل شرعية النظام (الدولة)

إن
أهل الغلو والتكفير صاروا يدورون حول أمر عظيم، وخطره على أمن البلاد وجماعتها ودينها
ودنياها، وعلى مصالح الأمة العظمى جسيم، وهو تنكرهم للأصول والثوابت الشرعية في هذه
البلاد (المملكة العربية السعودية)، تلكم الأصول والثوابت القائمة على نصوص الشرع وقواعده،
والتي عليها علماؤنا وأئمتنا وخيارنا وأهل الحل والعقد فينا، منذ بزغت شمس الدعوة السلفية
المباركة، دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب ومؤازرة الأمير محمد بن سعود وأحفاده لها،
وآخرهم الملك عبدالعزيز وأبناؤه، وهي شرعية الدولة، ومبايعتها على السمع والطاعة بالمعروف
على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره والعسر واليسر، كما
أوصى بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، والنصح للولاة، وحفظ كيان الجماعة وأمنها.

ولا
يعني ذلك أن نتجاهل ما حصل في مجتمعنا من تحولات خطيرة (دولة وشعباً)، من مظاهر الانحراف
والمعاصي ومظاهر الفسق والنفاق والإعراض عن شرع الله. مما يستوجب منا جميعاً التناصح،
وعلاج الأمور بالحكمة والرفق والصبر، ونحو ذلك مما هو من قواعد الشرع العظيمة، التي
من تجاوزها هلك وأهلك، وقد أشرت إلى الكثير من ذلك في هذا البحث.

وفي
هذه العجالة أسوق بعض فقرات النظام الأساسي للحكم في المملكة التي تؤكد الأصول الشرعية،
وتقوم على ثوابت الدين:

-
المادة الأولى: المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية
ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

-
المادة الثانية: عيدا الدولة... هما عيدا الفطر والأضحى..
وتقويمها هو التقويم الهجري.

-
المادة السادسة: يبايع المواطنون الملك على كتاب الله تعالى
وسنة رسوله، وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره.

-
المادة السابعة: يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية
سلطته من كتاب الله تعالى وسنة رسوله... وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة
الدولة.

-
المادة الثالثة والعشرون: تحمى الدولة عقيدة الإسلام...
وتطبق شريعته وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.. وتقوم بواجب الدعوة إلى الله.

-
المادة الخامسة والأربعون: مصدر الإفتاء في المملكة العربية
السعودية.. كتاب الله تعالى ... وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم... ويبين النظام ترتيب
هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء واختصاصاتها.

-
المادة السادسة والأربعون: القضاء سلطة مستقلة.. ولا سلطان
على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية.

-
المادة الخامسة والخمسون: يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة
شرعية طبقاً لأحكام الإسلام، ويشرف على تطبيق الشريعة الإسلامية والأنظمة والسياسة
العامة للدولة وحماية البلاد والدفاع عنها.

هذه
نماذج من نظام الحكم في المملكة العربية السعودية تؤكد على الأصول الشرعية والثوابت.

الشبهة الثانية: وجود الكفار (المشركين) في جزيرة العرب

والرسول
صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت
أجيزهم)[2] والحديث صحيح
وفي بعض ألفاظ الحديث: (من اليهود والنصارى)[3] والمعنى واحد.

وزعموا
أن الموجودين من الكفار بشتى صور وجودهم لا عهد لهم [4]، مع العلم
أنهم دخلوا البلاد بعقود، وتحت كفالة الدولة أو المؤسسات أو الأفراد، فقد تجارى بهم الهوى حين لم يعتبروا عهد الدولة
ولا المؤسسات ولا الأفراد الذين دخل الكفار تحت كفالتهم، وأساس ذلك ما ذكرته في الفقرة
السابقة من أنهم لا يرون شرعية الدولة، وصحة عهودها ولا عقودها، فخرجوا على البيعة
والجماعة والطاعة والعلماء وفتاويهم.. إلخ فنقضوا الأصول والثوابت الشرعية أصلاً أصلاً
حتى خرجوا بهذه الأحكام الخطيرة، ولا يتوقع أن يعترفوا لأحد بعهد في هذه البلاد حين
اعتقدوا (ردّة النظام!) ثم لم يسددوا للفقه الشرعي في معالجة الأمور -ومع افتراض أن
يوجد من الكفار في جزيرة العرب من لا عهد لهم- فإنهم جانبوا الصواب والحق في فقه الحديث
وتطبيقاته وذلك:

أن
الصحابة والتابعين وسلف الأمة هم أول من تلقى الحديث، وعملوا به، فلم يفعلوا ما فعل
هؤلاء الغلاة، وذلك أنهم علموا -أي السلف- أن المقصود بالحديث أن لا يبقي للمشركين
كيان ومعابد ومجتمعات مستقلة مهيمنة، أو دولة مستوطنة دائمة.

ثم
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقتلهم، بل أمر بإخراجهم، ولذلك لم يقتلهم أحد
من سلف الأمة، وكذلك كان الأمر للجماعة، والسلطان، وليس للأفراد، فلم يحدث أن أحداً
من المسلمين من قبل أخرج كافراً من جزيرة العرب بالقتل، فهو إجماع.

واتفق
جمهور العلماء كذلك على أن المعاهدين والمستأمنين، وأهل الذمة، لا يدخلون في ذلك، وكانت
مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجاز وسائر جزيرة العرب فيها أصناف الكفار من
اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين
وبعدهم، وحين قتل أبو لؤلؤة -المجوسي المشرك- عمر رضي الله عنه واستأذن ابن عباس رضي
الله عنهما بقتلهم أو بطردهم من المدينة لم يأذن لـه بل نهاه [5].

وقد
يدعي بعضهم اختلاف الصورة والحال (العصر)، فنقول لهم: إن الحال المعاصرة تصدى لها علماء
الأمة الأعلام: محمد بن إبراهيم، والسعدي، وابن حميد، وابن باز، وابن عثيمين، والدوسري،
وعفيفي، والتويجري وأمثالهم ممن قضوا، وكذلك علماؤنا الأحياء -وفقهم الله- لم يقولوا
بقولكم، ولا يقرونه، فأعيذكم -ونفسي- بالله أن تكونوا ممن قال الله فيهم Sad

وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115)

الشبهة الثالثة: مظاهرة المشركين وموالاة الكافرين (أو توليهم)

ويقولون:
إن الدولة ساندت القوات الأجنبية، وقدمت التسهيلات في ضرب بلاد المسلمين في أفغانستان
والعراق، وأنها سمحت بوجود كيانات عسكرية مقيمة في أراضيها، ولا شك أن هذا أمر خطير
وكبير، فيقال لهم حسب القواعد الشرعية التي سبق بيانها في (أحكام التكفير وقواعده وضوابطه)
أول هذا الكتاب:

-
إن مظاهــرة المشــركين على المســلمين، وتولي الكافرين من عظائم الذنوب، وقد يكون
من الكفريات، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51)

،
لكنه -كسائر الكفريات- التي تتشعب، فقد يكون منها المخرج من الملة، ومنها ما دون ذلك،
فمن أي نوع ما حصل؟ ومن يحكم به؟

-
يجب على أهل العلم أن يتثبتوا من حقيقة ما حصل، وعلى أي وجه حصل [6]، كما أمر
الله تعالى، فلا يجوز الاعتماد على الشائعات، ولا الحكم بمجرد الظواهر. نعم إن بعض
هذه الأمور ظاهر للعيان، أو معلن، لكن الملابسات والتفاصيل لا يعرفها إلا أهل الاختصاص.

-
أن المرجع في ذلك والمطالب بالتثبت فيه والحكم هم الراسخون في العلم -وإن قصروا لا
قدر الله- كما يزعم الغلاة، فالله هو الذي سيحاسبهم، ولا يجوز أن تتخذ هذه الدعوى ذريعة
للافتيات عليهم، وغيرهم معذور إن شاء الله، إذ (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) حتى يهيئ
الله للأمة من أمرها رشداً، بعدما تأخذ بأسباب العزة على فقه من دين الله وبصيرة.

-
أنه لو -لا قدر الله- كان ما ارتكب من الكفر الأكبر فلا يجوز به تكفير المعين من فرد
أو دولة حتى يستوفي العلماء الراسخون شروط التكفير، من عدم وجود عارض الجهل أو الإكراه،
أو التأويل، أو الخطأ (عدم التعمد)، أو الاشتباه. فلا نستبعد إحدى هذه الأحوال في واقع
الأمة المرير اليوم وما هي عليه من الضعف والذل والهوان لا سيما حال الإكراه والخوف
من حصول المفاسد العظمى، والله تعالى يقول: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بالإيمان )(النحل: من الآية106)

،
وحال القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى، فلنتق الله في كل ما نقول وما
نفعل لا سيما في الحكم على العباد، ولا حول
ولا قوة إلا بالله.

الشبهة
الرابعة: الإسهام فـي المنظمات الدولية والتحاكم
إليها (وهذا تابع لمسألة المظاهرة والتولي):

كهيئة
الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، ونحوهما من المنظمات والهيئات والمعاهدات والمواثيق
الدولية والعالمية كمعاهدات حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب، بل وجامعة الدول العربية،
ومجلس التعاون الخليجي، ونحوهما من الأحلاف التي لا تقوم على أساس الإسلام والدين،
والغلاة (وربما غيرهم) يدخلون هذه الأمور تحت صور تولي الكافرين وموالاتهم، ويدرجون
معها كل تعاون بين الدولة ومؤسساتها، وبين المنظمات والمؤسسات الدولية الأخرى، حتى
في مجالات الإغاثة والعلاج والإسعاف، فكان كثير منهم يرى تعاون الهلال الأحمر السعودي
مع هيئة الصليب الأحمر في مجال الإسعاف الطبي نوعاً من المظاهرة والتولي؛ بل من المكفرات!

وهذا
شطط وجهل منهم بأحكام الشرع وقواعد الدين؛ فإن العلاقات والمعاهدات والتعاون بين الدولة
المسلمة وبين الدول غير المسلمة له ضوابطه وأحكامه التي تنطلق من القواعد الشرعية الكبرى
في رعاية العهود والعقود وتحقيق المصالح، ودرء المفاسد، بل والمداراة والمجاملة أحياناً إذا كان المسلمون
في حال شتات وضعف وفرقة كما هو الحال في الأزمان الأخيرة.

فالرسول
صلى الله عليه وسلم كانت لـه عهود وعقود ومعاملات، وتعاملات مختلفة مع اليهود والنصارى
والمشركين [7]، وتتفاوت
بحسب المسلمين وأحوالهم.

وكذلك
الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من دولة بني أمية وبني العباس وغيرهم من سلاطين المسلمين
وملوكهم، كانت لهم عهود وعلاقات وتعاملات وتبادل مصالح في الدول والأمم والقبائل الكافرة
تراعى فيها مصالح المسلمين وأحوالهم قوة أو ضعفاً.

وكان
السلف الصالح يعيشون تلكم الأحوال ويواجهون هذه الأمور، ويراعون فيها مصالح الأمة،
وكانوا يحكمون فيها بالقواعد الكبرى أكثر من النصوص المفردة، لأن النصوص مختلفة ومتنوعة
بينما القواعد (وهي مستمدة من النصوص) ثابتة ومحكمة.

فأحياناً
يضطر بعض سلاطين المسلمين للمعاهدة، أو نوع علاقة، بل أحياناً لدفع الضريبة لحاكم كافر
تفادياً لمفسدة أعظم.

الشبهة
الخامسة: منع الجهاد وتعطيله ومطاردة شباب الجهاد والمظالم في السجون:

إن
من المقررات الشرعية الثابتة أن الجهاد أصل من أصول الإسلام، لا يملك أحد إلغاءه، وهو
ماض إلى قيام الساعة، وواجب على الأمة الجهاد مع البر والفاجر، كما أخبر بذلك النبي
صلى الله عليه وسلم: (الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برَّاً كان أو فاجراً) [8].

وتخاذل
المسلمين عن ا لقيام بهذا الواجب من أعظم أسباب ضعفهم وهوانهم وذلتهم، ولما احتلت أفغانستان
من قبل الروس هب المسلمون للجهاد حتى تحقق لهم النصر، ولا تزال طوائف من الأمة تجاهد
بحسب حالها وإمكاناتها في فلسطين وكشمير، وكذلك في العراق، وإن كانت الرايات فيها غير
بينة، وفيها رايات عميَّة: طائفية وحزبية وقومية واستخباراتية وغيرها، وأهل السنة والحق
في حال استضعاف، نسأل الله أن يسددهم، ويكون في عونهم، وعليهم في كل بلد ابتلي بالاحتلال،
أن يتشاوروا ويعملوا ما يسعهم، وينبذوا كل أسباب الفرقة والشتات.

فحين
تمنع الدولة بعض الشباب المتعجل أو المتهور من الذهاب إلى جبهات القتال، أو حين يفتي
بعض العلماء -وبخاصة المشايخ الكبار- بعدم الإذن لبعض الشباب بالذهاب إلى جبهات القتال
في هذه الظروف، فلا يعني ذلك المنع المطلق
للجهاد إنما لمصالح معتبرة، ودرء مفاسد ظاهرة؛ ولأن الجهاد في حقهم غير متعين، ولم
تنعقد لـه راية بيَّنة، ولم يتهيأ المسلمون لاستيفاء شروطه.

أما
أن يجاهد أهل بلد مسلم كفلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير والشيشان ونحوها دفاعاً عن
دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم المشروعة، وإذا انعقد رأي أهل الحل والعقد
فيهم على رفع راية شرعية فهم أدرى بحالهم، ونسأل الله أن يسددهم وينصرهم كما وعدهم
إذا استقاموا على دينه ( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(محمد:
من الآية7)

ولهم
علينا النصرة بما نملك، وتقدير ذلك ومتى وكيف يكون، راجع إلى أهل العلم والفقه والرأي
والمشورة فينا.

الشبهة
السادسة: ظهور المنكرات والمفاسد والتعدي على
حدود الله:

إن
كل عاقل يوافق هؤلاء على وجود بعض المفاسد والمنكرات والمظالم، والأعراض عن الدين والتجاوزات
والتعدي على حدود الله، من بعض الأفراد والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية وبعض وسائل
الإعلام وجرأة العلمانيين والمنافقين على التطاول على العقيدة والثوابت وانتهاك لحرمة
الدين، وحرب الفضيلة، ولا أظن أحداً يتقي الله ويخافه ينكر وجود مثل ذلك، لكن الخلاف
في الحكم والموقف من هذه الأمور، وما منهج السلف الصالح في مثل هذه الأمور المتمثل
في نصوص القرآن والسنة وفقهها وتطبيقاتها من قبل الأئمة الأعلام المقتدى بهم في الدين، وكيف العمل بقواعد الشرع
تجاه ذلك: من جلب المصالح ودرء المفاسد، وحفظ الحقوق، والحفاظ على الأمن، ولزوم الجماعة
والطاعة، وأن لا ينزع يداً من طاعة....

والقاعدة
الواحدة من هذه القواعد العظيمة تقضي على شبهات الغلاة وذرائعهم إلى استعمال العنف
فكيف بها كلها.

ذرائع
أخرى:

مثل
وجود بعض الأنظمة المخالفة للشرع، وإقرار الربا وحمايته، ووجود بعض المحاكم غير الشرعية،
ومطاردة شباب الجهاد، والمظالم في السجون ... إلخ.

يتذرع
أهل الغلو والتكفير بوجود بعض الأنظمة المخالفة للشريعة، وأنها حكم بغير ما أنزل الله.

والحق
أنه توجد بعض الأنظمة والمحاكم واللجان التي فيها أو في بعض بنودها مخالفات شرعية،
وبعضها جرى تعديله، مثل نظام المرور وغيره.

وبعضها
لا يزال يحتاج إلى مزيد نظر، والسبيل إلى تحقيق تصحيح هذه الأخطاء هو ما كان عليه السلف
الصالح، وهو نهج مشايخنا حفظهم الله، وهو المناصحة
والإنكار بالطرق المشروعة بالحكمة والصبر والرفق إعمالاً لوصايا نبينا الناصح الأمين
صلى الله عليه وسلم في ذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (.... وأن تناصحوا من ولاه
الله أمركم) [9]
حديث صحيح.

كما
أن هناك من بعض أهل العلم المعتبرين، من يسوغ بعض هذه الأنظمة وأعمال اللجان ويتأول
فيها بما يخرجها عن كونها حكماً صريحاً بغير ما أنزل الله.

وسبق
في ذكر القواعد أن من صور الحكم بغير ما أنزل الله ما ليس كفراً مخرجاً من الملة.

وأنه
لـو افتـرضنا أن مــن ذلك ما هــو كفري مخرج من الملة (لا قدر الله)، فلا يعني ذلك
أن يخرج فاعله (دولة أو فرداً) من الملة، بل هو باق على أصل الإسلام يدفع عنه الكفر
بالجهل والإكراه والتأوُّل وعدم العمد ونحو ذلك.

ولعلـه
من عـلامات استحكام الهوى في الغلاة المكفرة كثرة استدلالهم على تكفير النظـام بفتاوى
الشيخ محمد بن إبـراهيم وغيـره، كالشيخ ابن حميد وبعض المشايـخ الذين يقوم منهجهم عـلى
شرعيـة الدولـة وبيعتها، بل هم الذين بايعوا الملك عبدالعزيز ثم سـعـوداً وفيصلاً وخالداً
وفهـداً، فـإن هؤلاء المشايخ بيَّنوا وحذروا وناصحوا، لكنهم لا يكفرون الأعيان، فهم
على منهج السلف الصالح في ذلك وغيره.

ومرجع
هذه الأمور إلى أصل شرعي عظيم وهو: (شرعية الدولة والنظام وتحقيق البيعة -بحمد الله-)
في هذه البلاد (المملكة العربية السعودية) الذي عليه أهل الحل والعقد وعلى رأسهم العلماء.

ونظام
الحكم وهو (بحمد الله) إسلامي على السنة في جملته (حيث قد توجد بعض الثغرات في جزئياته
التي قد تكون محل نظر لدى البعض) كما أنه قد توجد في بعض مؤسسات الدولة وأفرادها أخطأ
وتجاوزات تخالف أصل النظام، لكنها لا تغلي اعتبار الأصل وتجب معالجتها بالطرق المشروعة،
وهي تجاوزات بشر، لا تسوِّغ الخروج ونزع الطاعة.
والكمال لله تعالى والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

أما
مسألة مطاردة الشباب العائد من جبهات الجهاد :

فأعرف
ويعرف غيري أنه ليس كل عائد من أفغانستان أو غيرها يطارد ويسجن، والذين أسهموا وعادوا
من جبهات الجهاد يعدون بمئات الآلاف (بل ربما ملايين) طيلة أكثر من عشرين سنة ماضية،
وحسب علمي أنه لم تحصل مضايقة إلا لمن أصابه (جرب الغلو) والتكفير أو يسانده، أو يتساهل
في مخالطة أهل الغلو ومساندتهم.

ولا
ندعي أنـه لا تحصـل من الجهات الأمنية بعض التجاوزات، أو تأخذ أحداً بالظن والتهمـة،
وربما حصـل بعض الأذى لمن هـم أبـريـاء، لأن هذا راجع إلى تصرفات البشر ونزعاتهم، وليسوا
معصومين، وقد يتجاوز الاحتياط والحذر الحد المعهود؛ فإن (من لدغته الحية خـاف من الحبل)،
لكن لا يمكن لعاقل أن يرغب في أن تترك الدولة من يستهدف الأمن، ويستحل الـدمـاء المعصومـة،
ويسـعى إلى الفساد في الأرض لمجرد أنه يرى هو ومن يسانده أن عمله مشروع، أو أنه بـاسم
الدين، أو الجهاد، وإلا لعمت الفوضى والفتنة.

وكذلك
ما يحصل للبعض من مظالم في السجون، فالله أعلم بمدى حقيقة ذلك، لكن يجب أن نعلم أنه
قد يحصل لبعض المسجونين شيء من الأذى والتعذيب، المقصود وغير المقصود، والمشروع وغير
المشروع، لكن السبيل في علاجه إنما يكون بالطرق المشروعة بالتظلم والشكوى إن أمكن،
وإن لم يمكن فلا محيد من الأخذ بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الظلم والجور
والأثرة والدعاء للسلطان بالهداية، كما جاء في النصوص الثابتة، وكما هو منهج السلف
الصالح.

فالإمام
أحمد واجـه جحافل الجهمية والمعتزلة الذين يدعون علناً للكفريات، بقوة السلطان، وكان
المأمون والواثق والمعتصـم وهم خلـفـاء وملـوك، ينشرون هذه الكفريات ويلزمـون الناس
بهـا، فتصـدى لهم بالإنكار بالكلمة حتى ضربوه وسجنوه، ولم ينــزع يداً من طاعة، وغضب
على بعض طـلابه الذين اسـتأذنوه في الخروج، ونهاهم، وما فتئ يدعو للسلطان الظالم [10]، ويصلي خلفه،
وهذا هو الفقه السلفي الذي نحتاجه جميعاً اليوم، وعليه مشايخنا وأهل الرشد فينا، ويفقده الغلاة ومن يتعاطف معهم [11].

الـعــــلاج

إنه
لا يمكن علاج أي مشكلة إلا بالقضاء على أسبابها وذرائعها، ومن الحقائق الشرعية الحتمية
أن أعظم سبب لظهور الغلو والتكفير في كل زمان ومكان هو ظهور الفساد والانحرافات من
البدع والمعاصي، والإعراض عن شرع الله، وانتهاك حرمات الدين والفضيلة، وعليه فإن الحل
الناجع للقضاء على مظاهر الغلو هو السعي الجاد لتفادى هذه المفاسد الكبرى.أما على سبيل
التفصيل فإن كثيراً من البحوث والمقالات والمحاضرات والفتاوى المعاصرة أسهمت في الحكم
والبيان وفي طرح مقترحات جيدة في علاج هذه الظواهر الخطيرة [12].

وفي
هذه العجالة أرى التركيز على ما يأتي (في المملكة العربية السعودية) على وجه الخصوص
بعد أن تسعى الدولة وأهل الحل والعقد للإصلاح والقضاء على مظاهر الفساد:

1-
أهمية الوضوح والشفافية والصراحة في طرح قضايا التكفير والعنف والغلو وأسبابها، والاعتراف
بوجودها وآثارها، ولا سيما بعد أن شاعت هذه الأمور عبر وسائل الإعلام والإنترنت ومجالس
الناس الخاصة والعامة.

2-
يجب عدم الخلط بين القضايا التي لها أصول شرعية وبين ما فيه مخالفة للشرع، فالجهاد
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء ونحوها، كلها أصول عقدية وثوابت
شرعية معتبرة شرعاً بشروطها، فيجب بيان الخطأ في تفسيرها وفهمها، لا إنكارها والتشكيك
فيها، وعدم الخلط بينها وبين التكفير المذموم والعنف والإرهاب والغلو، ولا سيما في
الخطاب الرسمي للدولة، وفي الخطاب الإعلامي الذي يمثلها، وفي الفتاوى.

وكذلك
عدم الخلط بين الجهاد وبين التكفير المذموم، أو بين البغاة والمفسدين وبين الخوارج،
فليس كل أهل الغلو والتكفير خوارج [13]، وإن وافقوا
الخوارج في هذه الأمور ونحوها، وليس كل مكفر جهاديّاً، وليس كل مجاهد مكفِّراً، والخلط
بينهم أدى إلى تعاطف بعضهم مع بعض، وإلى التباس الأمور على كثير من الناس، وإلى تعاطف
آخرين معهم كذلك.

3-
كشف مواطن الإشكال واللبس والغموض في القضايا الحساسة، كالأنظمة، والبنوك، والعلاقات
الدولية، ودخول الكفار في جزيرة العرب، ودخول القوات الأجنبية وملابساته، أو مساندتها،
وإعلان الوجهة الشرعية فيها والعدول ما لم يؤصل منها شرعاً، وتأصيل ما لم يتم تأصيله
شرعاً وربطها بنظام الدولة (وهو نظام إسلامي جيد بحمد الله)، وبفتاوى العلماء، ويتبع
ذلك ضرورة تحرير بعض المواقف والقرارات التي هي مظنة المخالفة الشرعية، و الرد على
الشائعات التي لا أصل لها حول هذه الأمور ونحوها، فتؤصَّل الأمور، ويكشف الزيف علناً
وبصراحة ووضوح، وليس من العيب أن تدافع الدولة عن نفسها بالحجة والبرهان، بل هو عين
الحق والقوة والشجاعة والصواب، فتُحرَّر جميع المسائل المشكلة شرعاً، وتربطها بأصولها
وقواعدها وأدلتها وفتاوى العلماء، وربط ذلك كله في نظام الحكم، ثم بيان أنه لو ثبت
مخالفة بعض الأنظمة والقرارات والمواقف والمعاهدات للشريعة؛ فإن المعهود أن الدولة
لم تقصد الخروج عن الشريعة، وأن هذه الأخطاء لا تلغي شرعية الدولة وبيعتها وحقوقها،
لكنها توجب مناصحتها، وبيان الحق، والمطالبـة بتصحيح الخطأ فحسـب، وأن تظهر الدولــة
سعيها الجاد في تصحيح الأخطاء والرجوع عما يخالف الشرع؛ لتنقطع بذلك ذرائع أهل الغلو
والتكفير والفساد.

4-
ثم يتبع ذلك أهمية استقراء شبهات الغلاة ودعاويهم وتلبيساتهم، أو الأمور الملتبسة عليهم،
وتتبع مقالاتهم ومؤلفاتهم وسائر مزاعمهم والتعرف على أساليب رؤوسهم ومرجعياتهم، ثم
الرد عليهم بالحجة والدليل والبرهان الشرعي والعقلي، والأسلوب العلمي الرزين، والحوار
الجاد مع المنظرين والمتبوعين منهم، بعيداً عن الأساليب التي تسلكها بعض وسائل الإعلام
من التجريح والاستفزاز والخلط، مع أهمية الإشارة إلى أن أصول الغلاة على مختلف فئاتهم
ترجع إلى أصول واحدة أو متشابهة يمكن إسقاطها بالأصول والثوابت الشرعية من قبل المختصين،
ويغني ذلك عن الخوض في أكثر الجزئيات، فمن هذه الأصول والثوابت الشرعية:

1-
أن الدولة مسلمة، ويقوم نظامها على الإسلام وتحكيم الشرع، والتزام السنة والجماعة.

2-
إمامة المسلمين وحقوقها وواجباتها، وأن الملك -وفقه الله- هو إمام المسلمين في هذه
البلاد.

3-
البيعة وتحققها للدولة شرعاً لأنها تمت من قبل أهل الحل والعقد من المسلمين في هذه
البلاد، وأنها تلزم في عنق كل مسلم مواطن في هذه البلاد ووجوب السمع والطاعة بالمعروف،
وبيان ما يترتب على الإخلال بالبيعة من مفاسد عظمى في الدين والدنيا، والتعرض للوعيد
الشديد كما قال الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة
جاهلية) [14].

4-
العلماء ومرجعيتهم، وأنهم على رأس أهل الحل والعقد، وهم الذين يقررون المواقف المهمة،
والأحكام في قضايا الأمة الكبرى، ومصالحها العظمى، وقد قاموا بواجبهم في بيان حكم الدين
في سائر القضايا والأمور الهامة، من خلال بياناتهم وكتبهم وفتاويهم ودروسهم ومقالاتهم
وردودهم وغيرها.

5-
نظام الحكم، وكونه إسلامياً مستمداً من المصادر (القرآن والسنة) ومنهج السنة والجماعة
والأصول الشرعية المعتبرة الملزمة للجميع.

6-
وجوب رعاية مصالح الأمة العظمى، ودرء المفاسد الكبرى عنها من الحاكم والمحكومين.

7-
اعتبار شرعية المؤسسات القضائية والمدنية والعسكرية في البلاد تبعاً للزوم البيعة وحقوق
الولاة والعلماء وشرعية نظام الحكم واعتبار أهل الحل والعقد.

8-
وجوب حفظ الأمن؛ لأنه مسؤولية الجميع، ولأن الإخلال به فساد في الأرض؛ لأن الدين جاء
بحفظ الضروريات الخمس: (الدين والنفس والمال والعرض والعقل)، ولا يمكن تحقيق أدنى شيء
من ذلك إلا بالأمن، وغير ذلك من الأصول الشرعية المعتبرة.

هذه
الأصول الكبرى إذا حررت مع الغلاة (ورؤوسهم بخاصة) تميز الحق من الباطل، والهدى من
الضلال والهوى، وانهدمت ذرائعهم من أصولها.

وكان
للبلاد تجربة في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- حين ظهرت آراء حول الدولة وتصرفاتها
وعلاقاتها، بعضها يشبه الآراء المعاصرة (في الموقف الحاد من الدولة)، فعولج ذلك أولاً
بحوار العلماء بعضهم مع بعض ومع المخالفين، واستقر الأمر على الأصول التي ذكرتها آنفاً،
والتي تقوم على البيعة والجماعة والأمن والسعي للإصلاح بالمناصحة لا بالمناطحة.

5-
أما وسائل العلاج والحوار التي يمكن تفعيلها أو إنشاؤها والمقترحات حول ذلك، فمنها:

أولاً:
طرح برامج وخطط علمية مدروسة ومحددة ومبرمجة بعناية؛ لعلاج ظواهر الغلو بالحوار والمناقشة
والحجة والتربية، وبالبرامج العلمية والإعلامية والتربوية والاجتماعية قريبة المدى
وبعيدة المدى، تنطلق من أسس شرعية، ومنطلقات علمية قوية.

فمن
الجانب العقدي والفقهي يجب أن يتصدى العلماء وأن تسهم الجامعات والمؤسسات التربوية
كأقسام العقيدة والفقه والكتاب والسنة والثقافة الإسلامية، ومراكز البحوث ومراكز خدمة
المجتمع، في كل الجامعات، وبخاصة الجامعة الإسلامية بالمدينة وجامعة الإمام محمد بن
سعود الإسلامية وجامعة الملك سعود وجامعة أم القرى وجامعة الملك خالد، وجامعة القصيم،
ونحوها، لأنها كلها توجد فيها تخصصات شرعية قوية ومحترمة، وأن تدعم البحوث والدراسات
والمواقف الإيجابية بحوافز، فكما وعدت الدولة بجوائز كبيرة لمن يسهم في التعرف على
الغلاة، يجب أن تعلن مثل ذلك لمن يقنع ويهتدي على يده أحدهم أو فئات منهم كذلك! وهذا
أقرب للعافية والسلام ودرء الفتنة، ويتبع ذلك:

ثانياً:
استنهاض همم العلماء والدعاة والمفكرين والمربين للإسهام في حل المشكلة، وتخفيف آثارها،
والحد من انتشارها بأكثر مما هو حاصل، وبكل الوسائل المتاحة -والتقصير في هذا حاصل-،
فمثلاً لا نعرف أي خطوة رسمية جادة في اللقاء المباشر مع أساتذة الجامعات، والقضاة
والدعاة من قبل المسؤولين في الدولة - إلا النادر- للتشاور والتعاون في حل هذه المشكلات
الكبرى، اللهم إلا لقاءات المناسبات العامة والمجاملات ونحوها، وهي لا تكفي.

فيجب
على الجميع طرح المشكلة بوسائل الإعلام، ومؤسسات التربية والتعليم، بأسلوب علمي مدروس،
لا بما يحصل في بعض اللقاءات والبرامج والإسهامات (شبه العفوية) وغير المعدة إعداداً
جيداً أو التي غالباً ما تكون كما يقول المثل (افتح فمك يرزقك الله)!.

ثالثاً:
التأكيد على أهل الحل والعقد وعلية القوم في المجتمع، من العلماء والأمراء وأهل الرأي
والمربين وغيرهم، في ممارسة دورهم الريادي للانفتاح على الناس وضبطهم بالمرجعية الدينية
والقبلية والاجتماعية والرسمية.

وأول
ذلك: العلماء وكبار المسؤولين في كل منطقة يجب لزاماً التأكيد عليهم بفتح أبوابهم للشباب
وعامة المجتمع، وأن يخصص كل واحد منهم وقتاً يومياً أو أسبوعياً يستقبل فيه الناس،
ويجيب على أسئلتهم، ويسمع معاناتهم، ويقضي حاجاتهم، ويحاورهم، ويخصص للشباب المندفـع
وقتاً يحـاورهم فيه، ويرفق بهم، ويرشدهم، وأشهد أن غالب الشباب المندفع الذي قد يتعاطف
مع الغلاة مستعدون للرجوع للحق، إذا جرى حوارهم برفق وسعة صدر وحلم وتذكير بالأصول
الشرعية، وهذا مجرب وناجح، لكن العلماء والمسؤولين وأصحاب الـرأي غالباً مشغولون عن
هذه المهمة، فانصـرف كثيـر من الشباب إلى الفضائيات والإنترنت ودعاة السوء والفتنة
والتيارات المعادية، والله حسبنا ونعم الوكيل.

رابعاً:
يجب إنشاء مراكز وجمعيات ومؤسسات متخصصة رسمية وغير رسمية، تعنى بهذه الأمور يكون فيها
باحثون ومتخصصون متفرغون يعكفون على البحث والدراسة والحوار والمناصحة، وتوفر لهم الإمكانات
اللازمة والوسائل العلمية والإعلامية وغيرها.

خامساً:
حبذا لو كان في أجهزة الدولة ومؤسساتها المعنية مراكز وإدارات متخصصة في العقيدة والفكر
والتيارات المعاصرة كالداخلية، والشورى، والتربية والتعليم، والتعليم العالي، والثقافة
والإعلام، والصحف، والعمل والشؤون الاجتماعية، والشؤون الإسلامية، والإفتاء، وكل الصحف،
وما كان موجوداً منها [15] يطور، ويفعل،
ويدعم، ليؤدي الدور الواجب في هذه الظروف.

سادساً:
توسيع دائرة الفتوى والمفتين نوعاً وعدداً وطريقة، وإنشاء دوائر للفتوى في كل المناطق
واسعة الصلاحيات، كبيرة الإمكانات، تتصدى لحاجات المجتمع ومشكلاته واشكالاته الكبيرة
والكثيرة والخطيرة [16]، وكذلك الدعوة
والشؤون الإسلامية.

فالناس
في هذه البلاد لا تزال ثقتهم بعلمائهم جيدة على رغم ما حدث لها من صدع كبير، لكن لم
تتوافر للعلماء الإمكانات والوسائل المتطورة لسد حاجة الناس، ولا يزال عدد الذين يسمح
لهم بالفتوى على نطاق إعلامي محدوداً جداً.

سابعاً:
كبار المسؤولين من المدنيين والعسكريين بحاجة ملحة إلى دورات مركزة في أصول الدين وثوابته
ومسلماته، وأصول الغلو واتجاهاته، والقواعد الشرعية حول الحاكم والسمع والطاعة والجماعة،
وضروريات الأحكام، ونحو ذلك مما يؤدي الجهل به إلى الاستهانة والاستهجان لمقام المسؤول
والحط من قدره.

ثامناً:
مهم جداً التأكيد (مرة أخرى) على التفريق بين أحكام الدين في الجهاد بشروطه، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء بضوابطهما الشرعية، وبين التشدد والغلو
والتطرف الذي يحدث باسم هذه الأصول الشرعية العظيمة؛ لأن الخلط وتجاوز هذه الأصول من
قبل البعض، والتنكر لها من بعض وسائل الإعلام والكتَّاب يؤدي إلى استفزاز الناس، ويتذرع
به أهل الفتنة والغلو.

تاسعاً:
أهمية تفعيل عمل رئاسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والارتقاء بمستواها من حيث
الوظائف والإدارة، والوسائل والإمكانات والدراسات، بحيث ينهض بها كما كان الأمر في
هيئة التحقيق والادعاء التي وصلت إلى مستوى مشرف وأداء متميز، وحققت للدولة والمجتمع
خدمات مشكورة... وهكذا يجب أن تكون الهيئات... وهذا مما سيقضي على كثير من دعاوى الغلاة.

عاشراً:
حول الفئة الغالية واستصلاحها: أغلب أفراد الغلاة من المتدينين ذوي العاطفة والغيرة
والحماس، لكنهم ينقصهم عمق الفقه، والحكمة، والبصيرة، والصبر والتجارب، واستهوتهم التيارات
والشعارات والأهواء، وأرى حيالهم:

أ-
الحوار المباشر ما أمكن من قبل العلماء والدعاة والمسؤولين في الدولة، ولو في السجون،
وأظن أن ما أعلنه بعض زعمائهم من تراجع كان نتيجة حوار متميز.

ب-
توجيه رسائل وبحوث علمية مؤصلة (ومطويات) تطرح بكل الوسائل المتاحة ولا سيما الإنترنت،
وتكون من متخصصين جديرين، وتعالج القضايا الكبرى بأسلوب ميسر، ويتبع ذلك:

ج-
الإكثار من الإصدارات والندوات والدورات والمحاضرات واللقاءات في علاج الغلو والتكفير،
وأن تكون هناك برامج ثابتة في الإعلام ولا سيما -إذاعة القرآن الكريم- لأن بعض الغلاة
قد يسمعونها، وكذلك قناة المجد؛ لأنها تحظى بقبول شريحة كبيرة من المجتمع.

د-
الإسراع بالإذن للجمعيات الخيرية والمؤسسات التطوعية؛ لأنها تستوعب كثيراً من طاقات
الشباب، وتسد فراغهم، وتمتص عواطفهم، وتشغلهم بما هو أنفع لهم في دينهم ودنياهم.

هـ-
يجب تسديد الخطاب الديني الرسمي وشبه الرسمي وتهذيبه ولاسيما ما كان منه صادراً في
قرارات الدولة وبياناتها ووسائل الإعلام؛ لأن بعض صياغات الخطاب الديني وأساليبه غير
جيدة، ولا ترقى إلى مستوى الإقناع الشرعي، ولذا اقترح أن لا يصدر خطاب أو بيان رسمي
أو قرار لـه علاقة بالشرع والدين حتى يعرض على مستشارين شرعيين متمكنين (من العلماء
المختصين).

و-
كما جدت الدولة مشكورة والعلماء، وكذلك المفكرون في معالجة مظاهر الغلو والعنف، يجب
بالمقابل الجد في معالجة المظاهر المعاكسة من الطعن في العقيدة والأخلاق والسلف الصالح،
من قبل بعض مرضى القلوب والعقول الذين يستفزون كل مسلم، فضلاً عن المتدين والغيور.
وأظنه غير المقبول أن يكون العقاب لمثل هذا التجاوز مجرد تبديل رئيس التحرير، كما يكون
في بعض الصحف التي تسهم في تغذية العنف بإيوائها لكتَّاب ومقالات تخالف بدهيات الدين،
وهذا مما يؤكد ضرورة وجود متخصصين في هذه الأمور في الصحف المحلية ووسائل الإعلام.

الحادي
عشر: أمور يحسن التنبه لها في معالجة الغلو والتكفير
أو ما يسمى (التطرف الديني) منها:

-
أن أعظم سبب لوجود التطرف في العصر الحاضر، هو التطرف المعاكس المنحل في رفض الدين
أو التساهل والإعراض عنه وعدم الجدية في علاج النوعين بتوازن.

-
يجب في هذه الحال التفريق (بوضوح) بين التمسك بالدين والسنة (وهو حق) وبين الغلو والتطرف
(وهو باطل)، والتفريق بين التكفير الذي هو حكم الله كما جاء في القرآن والسنة، بشروطه
وقواعده، وبين الغلو في التكفير.

-
أن الغلو والتكفير أو ما يسمى: (التطرف الديني) لا يمكن علاجه علاجاً حاسماً إلا بأمرين،
وهما:

1-
الحوار الجاد والمجادلة بالتي هي أحسن، ومن خلال النصوص الشرعية والقواعد المعتبرة
من قبل الراسخين والمتخصصين الذين يحترمهم المحاور، ويعترف بجدارتهم.

2-
الجد والحزم في معالجة أسباب الغلو، بعد إقامة الحجة وكشف مواطن الانحراف بجلاء.

-
أن أكثر ما يثيره أهل الغلو والتكفير مبني على أوهام وظنون وشائعات، وتلبيس، ثم أدى
ذلك إلى التهاجر والقطيعة بينهم وبين العلماء والمفكرين ورجال الدولة، مما أدى إلى
الأحكام الجائرة والمواقف الحادة.

فالحل
الأول هو كشف الحقائق، والشفافية، والحوار الجاد، واللقاء المباشر، وفتح الأبواب بضوابط.

وحيث
إن من أسباب الغلو والتكفير، بروز أفكار وآراء محادة للدين والفضيلة، فلذا يجب أن تضبط
التعددية (وحرية) الرأي التي ظهرت الدعوة إليها أخيراً بالضوابط الشرعية؛ بحيث تكون
التعددية في الاجتهادات لا في العقيدة والمسلمات والثوابت، ولا تكون ترويجاً للفرق
والبدع والأهواء؛ فالبلد بلد الإسلام والسنة، ويجب أن يبقى كذلك.

وأرى
أن تجاوز هذه الثوابت من قبل بعض الجاهلين كان من أسباب تصاعد الغلو والتكفير وذرائعه،
ولا يزال.

فلزاماً
على من يهمه الأمر من العلماء والمسؤولين وأهل الحل والعقد والمربين، أن يسعوا جادين
إلى حماية عقيدة الأمة وأخلاقها وكيانها وأمنها وجماعتها من أوضار الأهواء والبدع والمعاصي،
ومن غوائل الانحراف والفساد كله.

هذا
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله جل جلاله أن يقينا شر الفتن ما
ظهر منها وما بطن، وأن يجمع كلمتنا وجميع المسلمين على الحق والهدى، وأن يعز الإسلام
وينصر المسلمين في كل مكان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وصلى
الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله، ورضي الله عن صحابته أجمعين والتابعين ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين.

[1] - أثناء إعداد مادة هذا البحث وصلني ملخص لكتاب
(كشف الشبهات ومسائل العهد والجهاد) لفيصل الجاسم وظهر لي أنه أجاد وأفاد في الرد على
أهم شبهات القوم.

[2] - أخرجه البخاري برقم (3053) ومسلم برقم (1637).

[3] - انظر تحفة الأحوذي برقم (798) وصحيح الجامع الصغير
(232).

[4] - وبعضهم يتذرع بدعوى أن بعض المقيمين من الكفار عساكر وجواسيس واستخبارات
لجهات معادية ونحو ذلك وهذه دعاوى عريَّة من البرهان، ولو ثبتت فإن معالجة ذلك لا يمكن
أن تتم بهذه الطرق من العنف والتفجيرات والأسلحة، وهذه التصرفات إنما هي افتيات على
السلطان والجماعة وأهل الحل والعقد، وتفتح باب الفوضى والفتنة والإخلال بالأمن الذي
تضيع به مصالح الدين والدنيا، لو كانوا يعقلون! لكنها الأهواء وقلة الفقه وضعف البصيرة،
نسأل الله العافية والسلامة.

[5] - القصة أخرجها البخاري برقم (3700) وراجع منهاج
السنة 6/277.

[6] - مما يحسن التذكر به في هذا المقام أن مسألة الاستعانة
بالقوات الأجنبية في حرب الخليج الثانية صدرت فيها قرارات وبيانات من كبار العلماء
من رابطة العالم الإسلامي وغيرها من المجامع والمؤتمرات.

[7] - أنظر بدائع الفوائد لابن القيم (4/953)، أحكام
أهل الذمة لابن القيم (2/883)، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/140) قال
ابن القيم في أحكام أهل الذمة: "ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى من
يهودي سلعة إلى الميسرة وثبت عنه أنه أخذ من يهودي ثلاثين وسقاً من شعير ورهنه درعه،
وفيه دليل على جواز معاملتهم ورهنهم السلاح وعلى الرهن في الحضر وثبت عنه أنه زارعهم
وساقاهم وثبت عنه أنه أكل من طعامهم"
(أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/551).

[8] - سنن ابي داود (2533) والبيهقي 3/121 وضعفه ال

» الغلو مقابل التساهل، المفاهيم والآثار‏ في هذه الدراسة يوضح الشيخ صالح الفوزان معنى الغلو وصوره ويوض
» المنهج المأمول في دراسة علم الأصول
» الأحداث الأمنية المتنقلة في لبنان لن تنقذ النظام السوري..؟؟ on 26 مايو, 201

كتاب حديث حول الأحداث : ظاهرة الغلو والتكفير .. الأصول، والأسباب ، والعلا

الوصول السريع

الوصول السريع