تقديم
تمتلئ دور النشر بمئات الكتب والمطبوعات عن ظاهرة الإرهاب، وتتصدّر عناوين الصحف سيلاً جارفاً من التحليلات الجادة والسطحية عنها.
ويأتي الأخ فهد بن عبد العزيز الغفيلي - بمنهجية جديدة يحاول من خلالها الدخول إلى عقول العناصر الإرهابية التي ات-خذت من قتل الأبرياء، وهدر الدماء التي حرم الله، وتدمير الحياة، ونشر الرعب في مجتمعٍ آمن، طريقاً منحرفاً لها.
يوظف الأخ فهد ثقافته الخاصة، وحسّه الوطني، وأدوات تحليله المتميّزة ليعبُر من خلالها إلى الحالة....حالة من باع نفسه، ودينه، وأهله، وقيمه الدينية والإنسانية، وواجبه الوطني للأفكار المضللة المدسوسة على الدين، التي تدعو للهدم وسفك الدماء بحثاً عن هدفٍ مجهول.
هذه المحاولة الجريئة، التي حاول الكاتب من خلالها أنْ يسبر أغوار نفوس الشباب المنحرف عن سواء السبيل، وهي وإنْ كانت افتراضية، لا تستند إلى واقع، إلا أنّها تقدم منهجاً روائياً جميلاً قد تستطيع في بعض الحالات الاقتراب من الصورة الصحيحة لما يدور في نفوس العناصر الإرهابية، التي باعت حياتها، وأمن وطنها، وأهلها للشيطان، لتخدم بذلك الأعداء الحقيقيين، الذين تدّعي تلك العناصر أنّها تقاتل، وترعب، وترهب، وتدمِّر لمحاربتهم.
إنّها ظاهرة قبيحة تستحق الإبحار في أعماق عناصرها المشوهة فكرياً وأخلاقياً، وإذا ما تعذر ذلك على الكاتب لأنّهم أشباحُ في الظلام، فإنّ توظيف قدراته، ومعرفته، وقراءاته، وتصوراته، وفكره لوضع مثل هذه المداخلات الافتراضية، يعتبر عملٌ إبداعي جميل، قد يسهم في اكتمال الصورة عمّا يجري فوق ساحة الوطن الغالي. والله من وراء القصد.
د. إبراهيم بن محمد العواجي
تمهيد
حين بدأت فكرة إعداد هذا الكتاب، قلت في نفسي إنّه من الواجب أنْ يكون فيه شيء من التميز، ليحظى باقتناء القارئ الكريم وثقته، لأنّ هدفي أنْ يشاركني القارئ العزيز ما تعيشه أمتنا الإسلامية والعربية وشعبنا السعودي النبيل من هموم، بسبب ما يجري في بلادنا من أحداث منافية لما تربى عليه جل أفراد هذا الشعب الكريم، فمهما حدث وإنْ كان صغيراً، يعد لافتاً للانتباه لكونه شاذاً ومستحدثاً على أعراف أهالي هذا البلد.
وفي زمن شحت فيه الرغبة في القراءة والاطلاع وانشغل الكثيرون بمتابعة أحداث ومناسبات وبرامج وعروض أكثر جاذبية لهم، رغم كثرة الخطوب التي تستحق المتابعة، والتي تصرف المهتمين منهم وتشدهم إلى وسائل إعلامية تقدم الحدث في حينه، كقنوات التلفزة الفضائية، والمحطات الإذاعية، والصحف اليومية.
ولكن تبقى هناك طريقة لمناقشة الحدث بشكل أكثر عمقاً وشمولية، وفيها من البحث والتقصي ما لا يفضله القائمون على تلك الوسائل، لأنّ طبيعة المتلقي لا تحتمل الصبر بل ترغب في مادة خفيفة، سريعة، موثقة.
ومن هنا يأتي دور الكتاب لتقديم مادة علمية متكاملة تتناول الموضوع المعني بالدراسة من جميع جوانبه.
ومن منطلق حرصي على تقديم المفيد والنافع والخفيف للمتلقي الكريم، فقد قمت بتناول موضوع الإرهاب بطريقة مختلفة عن ما هو معهود، رغبةً مني في جذب القارئ الكريم وإطلاعه على حقيقة وخطورة ما يدور، متناولاً جوانب عديدة متعلقة بالإرهاب بأسلوب قصصي حواري مبسط، معتمداً فيه على الخيال في تناول الأحداث وسردها وليس على الحقيقة.
ولرغبتي في معرفة ردود الأفعال والوصول إلى ما يفكر فيه كل قارئٍ على حدة وكيفية رؤيته للحدث، فقد عمدت إلى طرح بعض المواضيع والمحاور التي تناولتها في هذا الكتاب في جريدة الجزيرة قبل صدوره، وبالفعل كانت تلك الفكرة مجدية وفاعلة بشكل ممتاز، أثمرت العديد من التعديلات في الطرح والأسلوب، والأهم من ذلك لفتت نظري إلى أهمية تناول جوانب ما كانت لتخطر لي على بال لولا أنّي لمستها من خلال تصريح القارئ في بعضها أو تلميحه في بعضها الآخر.
وكان غرضي من إعداد هذا الكتاب إظهار بعض الصور والجوانب التي رأيت أنّ بعضها لم يُتطرق إليه، أو كُتب عنه ولكن ليس بشكل كاف.
فتحدثت عن الإرهابي المغرر به، والإرهابي العائد إلى طريق الصواب، والإرهابي الذي تشرب الغلو والتطرف، وحال زوجة الإرهابي وما تعانيه وتلقاه من مصاعب تتجدد بشكل يومي، بالإضافة إلى محاولتي دحض الآراء، والرد على المزاعم التي تحاول الربط بين الإسلام والإرهاب، ومن ثم تطرقت لنظرة الغرب للمسلمين بشكل عام، وأحكامهم الاستباقية عليهم، والزعم بأنّهم إرهابيون حتى لو كانوا أصدقاء - حسب زعمهم - وذلك من خلال ما يقرأون ويسمعون من وسائل إعلامهم، كما تداركت في اللحظات الأخيرة من مراحل تجهيز هذا الكتاب، وتطرّقت للمراكز الصيفية، والشريط الإسلامي، وتحدثت عن أهميتهما، ودورهما في إثراء حياة الشاب المسلم، ولم أنّسى أنْ أناقش أمرين رأيت أنّهما من الأهمية بمكان:
الأول:- متعلق بكيفية الوقاية من الإرهاب.
الثاني:- كيفية التعامل مع الإرهاب.
والحقيقةً أنّي قصدت من وراء إعداد هذا الكتاب وما تناولته فيه من مواضيع متفرقة مما له علاقة بالإرهاب، أنْ أجعل بين يدي القارئ الكريم أداةً مبسطةً، ووسيلةً معينة - بإذن الله - لمن يحاول التحاور في جوانب مختلفة، ربما يواجهها في حياته اليومية من خلال مناقشة بعض من لهم آراء مختلفة عمّـا أومن به ويؤمن به من يتفق معي، وهم كثير ولله الحمد، ولكن من أراد تناول موضوع الإرهاب بشكل أكثر توسعاً فهناك كثيرٌ من الكتب التي تناولته وفصلت فيه والتي لا يمكن حصرها.
فشكري وتقديري لوالديّ بعد الله وقبل كل أحدٍ سواه ثم لكل من أسدى إلي نصيحةً أو توجيهاً أو رأياً سديداً أو نقداً هادفاً.
ولا يفوتني أنْ أتقدم بوافر التحية والتقدير لمعالي الدكتور / إبراهيم بن محمد العواجي - على تفضله بتقديم هذا الكتاب، وتوجيهه لي بأنْ أعرض عليه الكتاب قبل طرحه في المكتبات، وهذا ما تم بالفعل، فلمعالي الدكتور إبراهيم منّي جزيل الشكر...والشكر قليلٌ حين يوجه لرجلٍ شهمٍ كريم، له أفضال عليّ لا أستطيع حصرها.
كما أتقدّم بجزيل الشكر إلى رئيس تحرير جريدة الجزيرة الأستاذ الفاضل خالد بن حمد المالك - على دعمه وتشجيعه، وإعطائي المساحة الكافية حين رغبت نشر بعض محاور الكتاب في تلك الجريدة الغراء، وهذا الفعل ليس بمستغربٍ من تلك النوعية من الرجال، ومن يعرف الأستاذ / خالد المالك - عن قرب لابد أنّه رأى الكثير من عطائه وأثره الملموس على الساحة الإعلامية السعودية والعربية، فله مني جزيل الشكر.
ولا أنسى القارئة والناقدة الأولى لكل موضوع تناولته - زوجتي الحبيبة أم عبد العزيز - بنقدها وتشجيعها، رغم مشاغلها العديدة بالوظيفة والبيت والأبناء، خاصة الابنة الصغيرة التي أسأل الله لها الشفاء والصلاح، كما أسأله سبحانه أنْ يكفي ولاة أمرنا، وأمتنا، وبلدنا كل مكروه، وأنْ يرزقنا القبول والإخلاص في العمل، وأنْ يكون هذا الإصدار نافعاً ومفيداً لكل من اقتناه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فهد بن عبد العزيز الغفيلي
من أنت ؟
في ظل هذه الطفرة المعلوماتية التي نعيشها، والتقدم المذهل لوسائل الاتصالات، ومع وجود وسائل الإعلام المختلفة والمتعددة التي أصبحت تنقل الحدث لحظة وقوعه، وتجعلك تعيشه وتتفاعل معه حتى لو كنت بعيداً عنه، وتفصل بينك وبينه آلاف الأميال.
في زمننا الذي نعيشه، صار الجميع يبحث عن المعلومة وعن الجديد، يريدون أن يسمعوا ويشاهدوا ويقرأوا كل شيء في سبيل الوصول إلى ما يسليهم، على الرغم من أنه ليس كل ما تسمعه الأذن أو تشاهده العين مسلياً، ولكنّ بني البشر جبلوا على المتابعة وحب الاطلاع والمعرفة.
وبما أنّ هناك شخصية طغت شهرتها على الجميع، وحظيت بالنصيب الأكبر من الاهتمام، وصارت أخبارها في كل مكان، وأحداثها تملأ وسائل الإعلام بأنواعها وإن اختلفت ميولها واهتماماتها.
وباتت كل مطبوعة أو محطة إذاعية أو قناة فضائية تسعى لنيل شرف إجراء حوارٍ مع تلك الشخصية لتستقطب أكبر حشد من الجماهير لمتابعتها واستقاء المعلومة منها.
وبما أنّ اللقاء حصري لا يتكرر ولا يُعرض في أي وسيلة أخرى، فقد تشرفت بعرضه بين أنظار قارئي الكتاب الأفاضل لعله يحوز على رضاهم واستحسانهم.
في البداية وكما جرت العادة طلبنا من تلك الشخصية أن تـُعرِّف بنفسها وتخبر القارئ الكريم من تكون؟
فقالت: لا يوجد لي مسمى محدد، وإن طغى بعض أسمائي على الآخر، حسب الفئة التي تتعامل معي، والوقت الذي أحضر فيه، فبعضهم يسميني إرهاباً وآخرون يطلقون علي جهاداً، وصنفٌ ثالثٌ يقول دفاعاً عن النفس‘ وفئة تدّعي أني أعمال وقائية.
فسألناه: وأيها تفضل أنت؟.
فقال لا تسألني أيها أفضل، بل قل أيها تبغض؟!.. فأنا لا أحب أياً منها، ولهذا لا يهمني أن يختلف الناس في تحديد مسمّى لي، ويعجزون عن الاتفاق على فهمي، ولكن ما يزعجني كثيراً هو أن هناك من يطلق عليّ إرهاباً، ثم في مرات يطلق علي جهاداً وهكذا، على الرغم من أن الفعل نفسه، والضحية بريئة كالمعتاد، بل إن ما يغيظني أكثر هو أن هناك فئة نصبت نفسها حكماً وأصبحت تصنفني حسبما تقتضيه مصالحها، فقبل فترة ليست بالبعيدة وقع اعتداءٌ من قبل إحدى الجهات في بلدٍ ما راح ضحيته مئات الأبرياء، فقالوا: إن ما وقع شأن داخلي تقتضيه الضرورة لإعادة تنظيم ذلك البلد، واليوم وقع نفس الفعل من الجهة ذاتها فهبّوا جميعاً يستنكرون ويشجبون ويمنعون ويقاطعون ويطلقون على ذلك الفعل أشنع وأبشع الألفاظ . لماذا؟!.. لأن المصالح غير موجودة الآن، ولأن دور تلك الجهة انتهى، لذا وجب شجبها ومقاطعتها، ومن ثم استبدال أخرى بها تناسب المخططات القادمة.
فسألناه: ولكن ماذا عنك أنت؟!... بمَ ت-عرِّف نفسك؟... وكيف تصفها؟
فقال: يجب أن يعلم الجميع من خلال هذا المنبر أنَّ لي الحق أن أقول عن نفسي ما أشاء، دون تدخل من أحد، لأنّ أي تدخل سيعيدنا مرة أخرى إلى دائرة الغموض والاحتيال في المسمّيات، بهدف تقييم كل فعل على حدة، وتصنيفه حسب الجهة التي قامت به، والأطراف المنتفعة منه، وأيضاً من وقع عليهم ذلك الفعل، ولكني حين أتحدث عن نفسي فأنّي أقول إن لي تعريفين أو نوعين من التعاريف كأي مصطلح أخر.
فهناك تعريف من حيث المفهوم اللفظي، فبالإمكان أن تطلق عليّ الخوف والخشية والرعب والوجل، وهناك لفظة عربية قريبة جداً من اللفظة المستخدمة في اللغة الإنجليزية وفي اللغات ذات الأصول اللاتينية وهي كلمة (ترويـع) وهي مشابهة من حيث اللفظ والمعنـى للكلمـة الإنجليـزيـة (TEROR) وتعني يخيف ، يرعب ، يرهب ، يروع والاسم منها (TERORISM) وتعني إرهاب أو ترويع.
فسألناه وماذا عن تعريفك الآخر من حيث المفهوم؟
فقال قبل أن أجيبك، دعني أطمئنك أنه لا يوجد أي اختلاف ولله الحمد فيما يتعلق بتعريفي اللغوي فالجميع متفقون عليه وإن اختلفت الألفاظ والتعابير، ولكنها جميعاً تدور حول التخويف والترويع، أما بالنسبة لتعريفي من حيث المفهوم فهو مختلف قليلاً، فهناك من يظن أني سيء دائماً، ولا يرى مني سوى وجهي البشع، ولكن في حقيقة الأمر لست كذلك، فأنا بقدر ما يظهره وجهي من قبح، إلا أن باطني به جمال ومنفعة وجوانب خيرة لا يعلمها ولا يدرك حقيقتها إلا من عرفني وفهمني وعمل على إنصافي.
فجانبي الطيب يظهر في قوله : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (الأنفال:60) فهذه الآية الكريمة نص في أنّه يجب على المسلمين أن يبذلوا قصارى جهدهم في التسلح، وإعداد القوة، وتدريب الجيوش، حتى يَرهبهم العدو ويحسب لهم ألف حساب.
ويجدر بي أن أنبِّه هنا إلى أنَّ إعداد الجيوش وتجهيزها وتسليحها تكون بإذنٍ من ولي أمر المسلمين، لا كما يفعل بعض المخربين اليوم من قتل وترويع وخروج على ولي الأمر زاعمين أنه جهاد، فإن قاموا بالتجهيز والإعداد تحت راية الإسلام دون إخلال بأيٍ من الشروط المنظمة لذلك، فقد حققوا الجانب الإيجابي من الإرهاب وهو ذلك المتمثل في إعداد القوة وتجهيزها من أجل تخويف وبث الرعب في نفوس أعداء الإسلام، وفي ذلك تحقيق لوصف المؤمنين الذين امتدحهم الله في سورة الشورى حين ذكر من صفاتهم القدرة على الانتصار على من بغى عليهم في قوله : وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (الشورى:39) . فهذا الإرهاب المتعلق بتخويف غير المسلمين يُعد إرهاباً مشروعاً شرعه الله لهذه الأمة بل وأمرها به.
أما وجهي القبيح فيظهر حين تقوم فئة باستخدامي في قتل الأبرياء وترويع الآمنين والمستأمنين دون رجوع لعالم أو سلطان، بل يعملون على تنفيذ ما يريدون بغض النظر عن النتائج وما سيترتب على أفعالهم من شرور ومفاسد.
فسألناه: ولكنك بهذه الطريقة وبتبنيك مفهومين أحدهما حسن والآخر قبيح، تشجع كل من تسول له نفسه الإقدام على عمل إجرامي وادِّعاء أنه من باب الترهيب المندوب.
فرد قائلاً: لا ليس الأمر كذلك، فهناك معايير وضوابط لكل عملٍ عند تصنيفهِ وإدراجهِ في قائمةِ الأعمالِ الإرهابيةِ أو الجهادية، ولن أستشهد فقط بالشريعة الإسلامية التي أعدها أول من أظهر الجانب الحسن مني، ولكني أقول لكل من التبس عليه الأمر أو بالأصح سعى في تلبيسه وإبهامه، ارجعوا إلى الأعراف الدولية، والأديان السماوية، والقوانين الوضعية، ستجدونها تعطي مفهوماً لا لبس فيه على من فعله يصنف جهاداً، ومن جرمه يدخل في دائرة الإرهاب، وستعلمون أيضاً من يمكن أن يحظى بشرف الاستشهاد ومن يوصم بالانتحاري.
إن من يعتدي على الآمنين فيرهبهم، ويقتلهم، ويسفك دماءهم معتد أثيم، أمّا من يدافع عن أرضِ أو عرضِ أو مالِ فهو مجاهدٌ وإن ق-ـتل فهو شهيد لأنّ خاتم المرسلين يقول: (من قتل دون ماله أو عرضه فهو شهيد).
فسألناه: وما تقول في من يحاول استخدام وجهك الحسن لتسويغ أفعاله وتصرفاته؟.
فأجاب: لا تخافوا، فسينكشفون وستسقط أقنعتهم، لأن الناس يدركون الحق ويميزونه عن الباطل وإن صار هناك بعض الغموض في بادئ الأمر ولكن الغمّـة سرعان ما تنكشف وتتضح الأمور، فالقوي المتبجح الذي يمارس إرهابه بدعاوى المحافظة على الأمن والديمقراطية سوف يضعف وتخور قواه ويسقط، والمتخفي الذي يمارس إرهابه بدعاوى الإصلاح في جنح الظلام سوف يأتي فجر جديد تشرق شمسه فتحرق تلك الخفافيش التي لا يروق لها العمل في وضح النهار.
فسألناه: هل يزعجك لو سألناك عن عمرك الحقيقي؟!..
فأجاب: لا، بل على العكس من ذلك، فسؤالكم هذا يفسح لي المجال للحديث عن عراقتي وخبراتي المتراكمة مع بني البشر منذ الأزل، فأنا وإياهم صنوان لم نفترق منذ بدء الخليقة وحتى اليوم، فحين قام قابيل بتهديد أخيه هابيل وتخويفه بالقتل، بسبب نجاح الثاني وفشل الأول، وقيامه بتنفيذ تهديده، كنت موجوداً هناك. مروراً بتهديد الأنبياء والمرسلين عليهم السلام بالإبعاد أو القتل كما يقول قوم شعيب لنبيهم في قول الله : قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (الأعراف:88) .
ومن ذلك الاعتداء السافر على حرمات الله وآياته كما فعل قوم صالح حين قتلوا ناقة الله، حيث يقول الله : فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (الأعراف:77). ثم إرهاب فرعون لبني إسرائيل في قوله : وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (الأعراف:127). بالإضافة لقتل أصحاب الأخدود دون وجه حق، إلا أنهم قالوا ربنا الله وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (البروج:
. وتعذيب وقتل بعض المؤمنين السابقين من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام. وما فعله التتار حين دخلوا بغداد، وكذلك ما أحدثه الصليبيون عند دخول بيت المقدس.
وما نراه اليوم من إرهاب وانتهاكات في سائر بقاع الأرض، من فلسطين والعراق إلى الشيشان وكشمير ومن راوندا إلى البوسنة والهرسك وكوسوفا وألبانيا وأفغانستان، بل حتى أطهر البقاع وأكثرها أمناً لم تسلم من تلك الأيدي الحاقدة. إذاً فكما أخبرتك أنا مع البشرية في كل زمان ومكان.
فسألناه: وما الذي يدفع بعض الناس لاعتناقك واتخاذك منهجا ونبراساً مع وجود البدائل؟
فقال: دعني أجبك عن مسألة البديل، فأنا أتفق معك بوجود البديل ولكن المشكلة أنني أتميز عن سائر البدائل بالسرعة والسهولة، فأنا سلاح العاجزين المتهورين وما أكثرهم في كل زمان ومكان، فلو نظرت مثلاً إلى دعوة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وكم استمرت، وكيف بدأت بدعوات فردية، ثم تطورت إلى اجتماعات سرية، ثم إلى دعوة علنية، لم يحدث فيها أي اعتداء على المعارضين والمخالفين، مع إمكانية ذلك، من باب الدفاع عن النفس، ثم تبع ذلك هجرة، وقامت أول معركة ومواجهة حقيقية بين الحق والباطل، بعد ما يقرب من خمس عشرة سنة من التأسيس، ونتج عن كل ذلك دولةٌ إسلامية هابتها الأرض كلها، في غضون ثلاثين سنة من تأسيسها، وسيطرت على مشارق الأرض ومغاربها، وهي لم تتجاوز بعد عمر رجل.
أما من يطلقون على أنفسهم مجاهدين في هذا العصر، وخذ على سبيل المثال في هذا البلد الحرام فهم يريدون أن يغيروا ويفرضوا أفكارهم ويعملوا وصاية على هذا البلد وأهله، ولا يريدون الانتظار، ولا يطيقون الصبر، بل إنّـهم وبمجرد معارضتهم ومواجهتهم وفتح باب النقاش معهم ينسلون ويتحصّـنون في ظلام دامسٍ - زائلٍ بإذن الله - ويبدأون بالتخريب والإفساد هنا وهناك.
فسألناه عن الأسباب التي تجعل أتباعه يلجأون للعنف والتخريب والتدمير والقتل وسفك الدماء.
فقال: هناك عدة أسباب: أقدمها على الإطلاق الغيرة من النجاح، فكثيراً ما حاول الفاشلون إفساد مشاريع الناجحين، إما بتدمير المشروع نفسه كما حاول أبرهة الحبشي حين أقدم على مخططه الإرهابي لهدم الكعبة، أو محاولة التخلص من الشخص نفسه، كما فعل قابيل حين قتل شقيقه.
ومن الأسباب أيضاً محاولة فرض الوصاية على الفكر الفردي أو المجتمعي بأسره، وهو الغالب، ومن ذلك ادِّعاء الإصلاح والتجديد وتحرير الشعوب وحمايتها. كما أن هناك سبباً ثالثاً يتعلق بعدم التعايش مع الجنس أو العرق أو اللون أو الديانة، فتنشأ عنها حركات إرهابية ينادي أصحابها بالقضاء على تلك الأقلية المختلفة.
فسألناه: هل من كلمة تود أن تختم بها قبل أن ننهي هذا اللقاء؟.
فأجاب: كل ما أود قوله وأرجوه أن يحذر الجميع من أولئك الذين ينادون بي ويحاولون إيهام الآخرين وخداعهم أنهم يقومون بأعمالهم التخريبية من باب الجهاد في سبيل الله، أو الدفاع عن النفس، فهذا غير صحيح، فليسوا هم من يحق له الحكم على الفعل وتصنيفه، بل يجب عليكم أنتم يا أبناء هذا البلد وعلماءه وقادته أن تقولوا وبكل أمانه إن هذا خطأ وذاك صواب، فتدعموا الحق وأهله وتحاربوا الباطل ومن يقف وراءه وتعرونهم.
أمّا إنْ تساهلتم معهم وتركتم يداً واحدة تعمل والأخرى حائرة مترددة، فسوف يأتي اليوم الذي يستيقظ فيه الغافل على دوي القنابل وأصوات البنادق ولن يجدي حينها ندم أو حسرة، بل بادروا لمحاربتهم، وكونوا يداً واحدة تربون وتعلمون وتنصحون وترشدون وتحاورون، فإن لم يُجدِ ذلك تبل-غون وتبحثون وتطاردون وتقبضون وتعتقلون، ومن لم يفلح معه كل ذلك فلا ضير أن نقول تقتلون وتصلبون وتقطعون من خلاف، وهذا آخر العلاج الذي بالتأكيد سيكون ناجعاً مع من لم تنفع معهم كل طرق التطبيب تلك؛ لأنهم ممن قال الله فيهم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة:33).
ابني في المركز الصيفي
كنت أهم بالخروج حين سمعت جرس باب منزلي يرن، ذهبت وفتحت الباب، وإذا به أحد الأصدقاء القدماء الذي لم أراه منذ بضعة أشهر.
رحبت به، واستأذنته بضع دقائق؛ كي أوصل ابني إلى المركز الصيفي غير البعيد عن منزلي، ثم أعود إليه؛ لنتناول فنجان من القهوة معاً، واستعادةِ بعض ذكريات الماضي، ومعرفة ما لدية من أخبار، خاصةً وهو يطوف منازل الأصدقاء واحداً تلو الآخر، كالنحلة أحياناً، ينقل الأخبار السّارة، وأحايين كالذباب، يغتاب هذا، ويسبّ ذاك، دون موعدٍ أو تنسيقٍ مسبق، وما قدومه لمنزلي هذه المرة إلا تصديقاً لكلامي عنه.
والحقيقة أنـّي كنت في غاية الشوق لأراه، وسرّني قدومه إليّ كثيراً؛ لأنّي كنت أفكر في الأصدقاء الذين لم أرهم منذ مدة بسبب ارتباطي مع الأبناء أثناء فترة امتحانات آخر السنة الدراسية، ووددت لو أن أحدهم طمأنني عليهم وأسمعني أخبارهم، وما هناك أحدٌ أفضلُ من صاحبي يعتمد عليه في تقديم كل ذلك لي.
إلا أنّه حين سمع مني تلك العبارات المتعلقة بتوصيل ابني إلى المركز الصيفي، تجهّم وجهه، وتغيّر لونه، وتورم شدقاه، وبدا لي أنه يكاد ينفجر من كثرة ما بفيه من كلامٍ وثرثرةٍ لم يقدر على كبتها أو أخفاء علاماتها.
لم أعرف في البداية سبب كل تلك التغيّرات التي طرأت عليه، وإن كنت ظننتها في البداية تعود لعدم دعوته للدخول إلى منزلي، وتحججي بإيصال ابني، إلا أني قلت في نفسي: لا... فهو متعود على الطرد من الجميع دون اعتذار، وأنا قابلته بكل حفاوةٍ، ورحبت به، واعتذرت منه بطريقة لبقة، فما أظن اعتذاري سبباً فيما طرأ عليه من تغيّر.
وبالطبع، فضوله وحماقته لم يتركا لي المزيد من الوقت لأخمِّـن، أو أفت-ش عن سببٍ آخر لما أصابه.
حيث بادرني قائلاً: إلى أين تريد أن تأخذ ابنك؟
قلت: ما الذي أصابك يا همّام؟ أو فقدت سمعك في الفترة الأخيرة؟ أما سمعتني حين قلت: أريد أن أوصل ابني إلى المركز الصيفي؟!
قال: لا لم أفقد سمعي، ولكني أتعجب من إنسانٍ متعلمٍ متفتحٍ مثلك، يأخذ ابنه إلى تلك الأماكن المشبوهة!.
قلت أي أماكن مشبوهة قصدت يا همّام؟
قال: المراكز الصيفية.
فقلت له: أخبرني ماذا تعرف عن تلك المراكز؟
قال أعرف عنها الكثير... خاصةً ما تجهله أنت وأمثالك السُذج!
قلت: همّام... ما الذي جرى لك؟!... أراك فقدت عقلك أيضاً، ويبدو لي أنه لحق ببصيرتك المسلوبة.... ولكن هات ما عندك، وأخبرني بما لديك من معلومات سريّة لا يعلمها الناس السُذج ممن هم على شاكلتي.
قال بصوتٍ خافت، وقد انتشى بعبارة (معلوماتٍ سرية): أما تعلم أن تلك المراكز تخرِّج أعداداً هائلة من الإرهابيين كل عام؟!... أما تدري أنها مفرخة للإرهاب؟!... وإن أُغلقت سوف يعود الأمن والأمان لبلادنا، ولن يكون هناك إرهابٌ بعد ذلك.
قلت له وبصوتٍ خافتٍ أيضاً مجارياً له في كلامه: ومن أين لك هذه المعلومات السرية الخطيرة؟
قال: أين تعيش يا رجل؟!... أما تعلم بما يدور في هذه البلاد ويحدث؟!...
قلت: بلى.... إنّي أعلم وأتابع جميع ما يحدث.
قال: إذاً بالتأكيد أنّك سمعت ما يقال عن تلك المراكز الملغومة؟
قلت: نعم سمعت اثنين أو ثلاثة يتحدثون ويكتبون عن بعض سلبياتها، ورأيتهم قد اجتهدوا - لعله بنيّة صافية، خالية من الشوائب - فعمّموا تلك السلبيات الصادرة من بعض المنتمين إليها على جميع منسوبي تلك المراكز، ومع حماسهم واندفاعهم، طالبوا بإغلاقها، متناسين إيجابياتها الكثيرة التي لا حصر لها، مقابل سلبيةٍ أو سلبيتين سمعوا عنها.
فقال: أي إيجابياتٍ تتحدث عنها؟ وليس لأولئك القائمين عليها همٌ سِوى توزيع أشرطة الكاسيت ذات المحتويات الفاسدة التي تدعو إلى العنف والتكفير؟
فسألته: هل سمعت أياً من تلك الأشرطة، وما تحويه؟
فردّ بعصبيةٍ: أعوذ بالله، فأنا لا يمكن أن أسمع مثل ذلك.
قلت: وعلى أي أساسٍ بنيت أفكارك، وأطلقت للسانك العنان، وسل-طته ليقول ما يشاء، ويحكم كيف يشاء، ويلقي الكلام جزافاً دون حسيبٍ أو رقيب ، في أمورٍ وأحداثٍ لم يهن عليك التحقق منها بنفسك، مكتفياً بما يردده الآخرون، مصيّراً نفسك بوقاً بأيديهم، ينفخون فيه ما شاؤوا، متى شاؤوا، دون اعتراضٍ منك. فقال: يا أخي أنا أساساً غير مقتنع بما تحويه تلك الأشرطة، وأطالب دائماً بإيقافها، والتصدي لها، ولمن يقف خلفها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فأنا لدي الكثير من تلك الأشرطة التي تتحدث عنها، والتي ت-هدى إليّ في مناسباتٍ شتـّى، فآخذها مجاملة، ثم أرمي بها، أو أتلفها، أو أحرقها مع أولادي في أقرب فرصة، متى صار عندي متسع من الوقت يكفي لفعل ذلك.
فسألته: ولمَ لا تتنازل قليلاً، وتسمع ما تحويه، وتسجّـل كل ما لا يتوافق مع مبادئ هذه البلاد الخيّرة، - بلاد الحرمين الشريفين - التي لا يرضى القائمون عليها بأي فعلٍ أو تصرفٍ يخل بأمنها أو معتقدات أهلها؟
قال: أراك صرت مثلهم، تتهرب من تسمية مملكتنا الحبيبة باسمها الذي عُـرفت به!
قلت: أليست بلاد الحرمين، ومهبط الوحي، ومنبع الإسلام؟ فهل تنكر ذلك يا همّام؟ أم إنّه لا يروق لك رؤية ماء صافٍ، فلا تهنأ حتى تعك-ره ثم تصطاد فيه؟!... ثم إنّ مليكها - حفظه الله - شرّف نفسه بلقبٍ أحبه واعتز كثيراً بحمله، وتميّـز به عن سائر ملوك الأرض قاطبة، وهو (خادم الحرمين الشريفين)، وأسأل الله أن تكون خدمته تلك في موازين أعماله، وأن يجزل له الأجر والمثوبة.
فردّ عليّ قائلاً: ولكن ألا تلاحظ أن مرتادي تلك المراكز على هيئة واحدة، وينتمون لحزبٍ واحد؟
قلت: أظن الحديث معك سيطول، ولكن اركب معي؛ لنوصل الولد إلى المركز كي لا يتأخر، ونكمل حديثنا أثناء ذلك.
ثم استرسلت في كلامي وقلت له: أخبرني قبل كل شيء عن الأحزاب الجديدة في بلادنا، فأنا لا أعلم أنّ في بلادنا أي أحزابٍ سياسيّة؟
قال ساخراً: ذلك الحزب الذي يطلقون عليه حزب الصحوة!
فسألت: وأنت لأي الأحزاب تنتمي؟ هل لحزب الغفوة؟ أم لحزب النوم؟ أم لحزب الشخير؟
فأخذ يضحك مما قلت، ثم قال: والله لا أقصد إغاظتك، أو التندر عليك، ولكنّي سمعت بعض الناس يقول عن مرتادي تلك المراكز ومستمعي تلك الأشرطة: إنهم ينتمون لحزب الصحوة.
قلت: آه...عرفت الآن لأي حزبٍ تنتمي يا صاحبي، فأنت تنتمي لحزب الببغاوات، الذين يرددون ما يسمعون دون أن يفكروا، أو يتدبروا، أو يتحققوا مما سمعوا، فيلقون الكلام جزافاً، غير مبالين بردود أفعال الآخرين.
ثم دعني أوضح لك أمراً في غاية الأهمية، ويجدر بك وبمن هم على شاكلتك معرفته، وهو أن الإنسان الفطن اليقظ، خيرٌ من الإنسان الغافل النائم.
فالأول:- قارئ، مطّلعٌ، ملمٌ بما يدور في الساحة من أحداث، مدركٌُ لما يحاك ضد هذه الأمّة من مؤامراتٍ يُراد منها بث الفرقة والعداء بين شبابها، ومن ذلك، رمي مبادئها وثوابت دينها بالرجعية والتخل-ف، والقدح في رسولها ، والطعن في ولاتها، واتهام مؤسساتها الدينية والاجتماعية بدعم الإرهاب، والدعوة للعنف.
والثاني:- وهو ذلك الإنسان الغافل، الذي لا يعلم بما يدور في هذا العالم، ولا بما يخططه أعداء الأمة لإضعافها، بل تجده على العكس من ذلك، ما أن يسمع تهمة عامّة ت-جن-ـي بها على هذه الأمّة، إلا ويأخذها، ويبدأ يرددها ويفصّ-ل-ها، فيدّعي تارةً: أن المناهج فاسدة، ويجب تغييرها، ومرةً يقول: إن حلقات تحفيظ القرآن تربّي على العداء، والتشكيك في الآخرين، ثم يعرِّج على الشريط الإسلامي، فيقذفه بأقذع الأوصاف، ويطالب بإغلاق التسجيلات الإسلامية، متهماً إياها بنشر الفكر التكفيري الفاسد، ثم ينقلب حين تأتي الإجازة، ليبدأ التحريض ضد المراكز الصيفية، ويتهمها بأنها معسكرات إرهابية.
والحقيقة أنّي فكـّرت، وتأملت حالة أولئك الغافلين المردِّدين لما يقوله أعداء الإسلام، فوجدتها لا يمكن أن تكون سِوى واحدة من ثلاث حالات:
أولاها:- أنهم يعلمون أشياء لا نعلمها، ولا يعلمها المسؤولون في الجهات المعنية، الذين منحوا القائمين على تلك الأنشطة، من تسجيلات، وحلقات تحفيظ القرآن، ومراكز صيفية، وغيرها، الفسوحات والتراخيص اللازمة ، ليفسدوا عقول أبنائنا، ويهدموا مجتمعاتنا، في مختلف المدن والمحافظات، فالواجب عليهم في هذه الحالة تقديم كل ما لديهم لصاحب الصلاحية؛ لإيقاف أولئك عند حدّهم، قبل فوات الأوان.
ثانيتها:- أن يكون مردِّدو تلك العبارات، غير مستندين إلى دليل، بل اجتهدوا من تلقاء أنفسهم، وسمعوا الآخر - أياً كان الآخر وبغض النظر عن مأربه - فردّدوا عباراته، غير مدركين لما تحويه، فهؤلاء يجب أن ننبههم لحقيقة تلك الدعوات الهدّامة، وما يراد من ورائها، ثم نوضّـح لهم حقيقة الأنشطة التي نقوم بها، وندعوهم لزيارتها، والوقوف عليها؛ كي يشاهدوا ويقفوا بأنفسهم على الحقيقة، ومن ثم ينقلون ما شاهدوا، وسمعوا بتجرد ومصداقية، أما محاربتهم، والتهجم عليهم، فغير مجدية، بل ما تزيدهم إلا تعنتاً وانجرافا خلف ما يسمعون، ويسهم عدم احتوائهم في فتح ثغرةٍ ينفذ منها أعداء الإسلام.
ثالثتها:- محاولة بعض الناس الاصطياد في الماء العكر، والإساءة للآخر بالطعن بأنشطته، وكل ما يقوم به، واستغلال أي ظروفٍ تمر بها الأمّة؛ لبث سمومه، والمطالبة بإعاقة المجتمع، والتضييق على أهله، وحرمان شبابه من منافذ طيبةٍ وسُبلٍ خيرة، دون إيجاد بدائل، رغم صلاحية تلك الأنشطة التي يريدون استبدالها، وعدم الحاجة لإيجاد بديلٍ لها، بل كل ما يهمه تعطيل تلك الأنشطة، بقصد الانتصار لنفسه من بعض القائمين عليها، دون تفكيرٍ مسبقٍ بالعواقب المترتبة على حملته تلك، في حال حققت مبتغياتها، وما يمكن أن تجره قرارات المنع والإغلاق التي يطالب بها، من ويلات على هذه الأمة، التي لن يجد شبابها متنفساً، ولا وسيلة لقضاء أوقات فراغهم سِوى الاستراحات وما يحدث في بعضها من منكرات، أو السفر للخارج وما فيه من فتن، ومفاسد، وأمراض، أو التسكع في الشوارع والأسواق، وإيذاء المسلمين بالتفحيط والمعاكسات. ثم لا تنس المكاسب التي تتحقق لأعداء الأمة، فيما لو حدث إغلاق لتلك الأنشطة لا سمح الله.
فردّ عليّ قائلاً: يا أخي، كلامك فيه الكثير من الصحة، ولكن ما تجلبه تلك الأنشطة من وجع رأس، وما يمكن أن يقوم به بعض منسوبيها من تصرفات، يجعلني أطالب بمنعها وإغلاقها.
قلت: كأنك تريد أن تقول ما يردده بعض الناس: الباب اللي يجيك منه ريح، سدّه واستريح؟!...
قاطعني بحماس قائلاً: بالضبط...وصلت لمربط الفرس.
فسألته: هل تعتقد أنّ هذا المثل، أو هذا المبدأ صحيح؟
قال: بالطبع ....فهذا عين الصواب.
قلت: أتدري بمَ يذكرني قولك هذا؟
قال: بماذا؟...عساه خيرٌ إن شاء الله؟
قلت: ذك-رتني بحادثة دهس راح ضحيتها قريب أحد زملائي، حيث كان قريبه ذو الثلاث سنوات، يلعب خلف سيارة أهله، حين رجع سائقها - ينتمي لإحدى الدول الآسيوية - إلى الخلف ولم يشاهد الطفل فدهسه، أتدري ما هي بعض الحلول التي طرحت من بعض أفراد تلك المجموعة التي كنت أجلس معها حين سماع تلك القصة لمنع تكرار مثل تلك الحادثة؟
قال: لا... ولكن ما هي تلك الحلول؟
قلت: ط-رحت العديد من الحلول، ولكن هناك اقتراحين ما زلت أذكرهما، ولا يمكن أن أنساهما أبداً، فهما يندرجان تحت ذلك المثل الدارج (الباب اللي يجيك منه ريح سُدّه واستريح).
فكان الاقتراح الأول:- يتمثل بمنع استقدام العمالة الأجنبية التي تمتهن قيادة السيارات، منعاً لتكرار مثل تلك الحادثة، وكأن حوادث الدهس المشابهة لن تتكرر في حال عملنا باقتراحه، وأيضاً دون تفكيرٍ بالأضرار الناجمة عن مثل ذلك الاقتراح لو تم تطبيقه.
أمّا الاقتراح الآخر:- فكان طريفاً، وزاده طرافةً الحدة، والصرامة، والجدية الزائدة التي بدت على وجه صاحبه، حين طرح اقتراحه، حيث قال: إنّه من الواجب على هيئة المواصفات والمقاييس السعودية، أن تمنع دخول السيارات التي فيها تغيير حركة السيارة إلى الخلف - منع الريوس - من جميع السيارات، والاكتفاء بتحريك السيارة للأمام؛ تلافياً لتكرار مثل تلك الحادثة.
وما سمعني قلت ذلك، إلا خرّ مغشيّاً عليه من الضحك، وبدأ يتمتم بكلام لم أفهم منه - بسبب ضحكه - سوى تندره وتعجّبه ممّن يفكر بتلك الطريقة.
قلت له: لا تعجب يا صاحبي من ذلك الشخص، فأنت وأمثالك ممّن يطالبون بإغلاق تلك المراكز، أو إيقاف فسح الشريط الإسلامي، وغيرها، محل تندرٍ وسخريةٍ أيضاً، ويقولون: إنكم سوف تطالبون بإغلاق المدارس؛ بسبب نشوب بعض الخلافات بين الطلبة، خاصة تلك التي تتطور، فتصبح اعتداءات تسيل بسببها دماء بعض الأطفال الأبرياء، وأنهم سوف يغلقون الأسواق والمحلات التجارية؛ بسبب ما يقوم به بعض المراهقين من معاكسات، وما يبدر منهم من مضايقات للمتسوقات، ومن المحتمل أيضاً أن يمنع استيراد السيارات؛ بسبب استغلالها بعمليات تهريب المخدرات، وإساءة استخدامها من قبل المفحطين.
قال: لا تبالغ....فالأمور لن تصل لهذا المستوى، ولن يطالب أحدٌ بما ذكرت.
فسألته: ولماذا تفكر بطريقتك؟، ثم تتندر بمن يفكّر بطريقة لا تروق لك؟، وتحلل وتبيح لنفسك تعميم بعض الأخطاء الناجمةِ عن قلةٍ من المنتمين لتلك المناشط الخيرة وتطالب بإغلاقها؟
قال: إذاً لابد من إيجاد حلولٍ لكل تلك المشكلات.
قلت: الآن بدأت تفكر بطريقة صحيحة، وأنا أتفق معك على ضرورة إيجاد حلٍ لكل مشكلة، فالمنع ليس حلاً، وترك الحبل على الغارب، وعدم الرقابة، خطأ جسيمٌ يجدر بنا التنبّه إليه. فيجب أن نعمل وفق استراتيجيةٍ واضحةٍ للجميع، فلا إفراط ولا تفريط، ولا ضرر ولا ضرار، لا أن يأتي إلينا كل من قرأ أو اطّلع ظاناً نفسه عالماً، ويطالب بالمنع والإغلاق، دون إدراك منه بمصالح المسلمين، ومن غير أن يدرس السلبيات والإيجابيات لما يطالب بإيقافه من أنشطة، بل تراه يطالب بأيسر الحلول، وأقلها تكلفة، وأسهلها منالاً.
وعندما وصلنا إلى بوابة المركز قلت له: لمَ لا ننزل معاً، ونشاهد المركز، وما فيه من أنشطة، ونتعرف على القائمين عليه، ونرى ما لديهم وما يقومون به؟
قال: لا بأس....فكرة ليست سيئة.
قلت له على الفور: الله أكبر يا همّام....أنت الذي تجوب شوارع الرياض روحة وجيئة، تبحث عن من يؤويك، تقول عن زيارة أحد المراكز الصيفية: فكرة ليست سيئة....ولكن دعنا ندخل، ونقابل الأخوة العاملين فيه، ونتعرف عليهم.
وما أن دخلنا حتى رأينا المكان ممتلئاً بالشباب، وكأنة خلية نحل، بعضهم يلعب كرة القدم، وبعضهم يلعب كرة الطائرة، وآخرون يشتغلون في المسرح، قاسمهم المشترك الظاهر والبادي للعيان الهمّـةِ، والنشاطِ، والنورِ المشعِ من وجوههم، أم باطنهم، فلا أظنه سوى الن-ـية الصّادقة والإخلاص - ولا أزكي على الله أحداً -
التفت إليّ صاحبي وقال: أهذا هو المركز الصيفي ؟!...هل أنت متأكد أنك أدخلتنا أحد المراكز الصيفية؟! وليس أحد الأندية الرياضية؟!
قلت له: نعم ما الذي دهاك يا رجل؟ أصبحت تتلفت يمنة ويسرة دون توقفٍ وكأنك مروحة جدارية!
فأجابني قائلاً: لم يخطر على بالي أن المراكز الصيفية بهذا الشكل، فقد كنت أظنها تجمعات شبابية، لعشرة أو عشرين شاباً، يقرأ أحدهم كتاباً دينياً، ثم يبكون معاً وينصرفون، ولم أكن أتخيل أنّ المراكز تضم هذه الأعداد الهائلة من الشباب، بمختلف الأعمار والهيئات، فما ألاحظه أنّـها ليست لصنفٍ معيّنٍ من الناس، ولا لفئةٍ بعينها كما كنت أسمع وأظن.
وأثناء تجوالنا الذي لم يتجاوز الدقيقتين، قابلنا أحدُ الأشخاص مبتسماً، ورحّب بنا، ثم عرّفنا بنفسه قائلاً إنه نائب المشرف، وأخذنا في جولةٍ سريعةٍ على المركز ومرافقه، وبعد أن انتهت تلك الجولة، قام بإهدائنا بعض الأعمال الفنية، التي عُملت بأيدي شباب المركز، وقدّم لنا معها بعض المطويّات والأشرطة الإسلامية.
فقال صاحبي هامساً في أذني: آه.....من هذه الأشرطة التي لا مفر منها!...
فرغبت هذه المرة أن أسمع من ذلك الشاب ما لديه عن تلك الأشرطة، لعله يزيل ما بقي في ذهن صاحبي من شوائب.
فسألته: لماذا تحرصون على تقديم تلك الأشرطة، والمطويّات في كل مكان؟ وما هي الفائدة منها؟
فأجابني بكل أريحية، وقد غطت ابتسامةٌ عريضةٌ كامل محياة، وبدا لي أنّ لدية كلاماً مقنعاً أكسبه تلك الثقة الكبيرة التي أظهرتها ابتسامته، فقال: كما تعلم يا أخي إنّ هذه الحياة قائمة على الدعوة إلى شيءٍ، أو التحذيرِ منه، بأشكالٍ مختلفة، فمن أشكال الدعوة إلى الشيء، الإعلان عنه، وبيان محاسنه، ومحاولة ترغيب الناس وتحبيبهم فيه، ومن أشكال التنفير منه، والصدّ عنه، التهجّم عليه، وترهيب الناس وتحذيرهم منه.
وجميع الأشرطة الإسلامية المتوافقة مع شريعة هذا الدين، ومبادئ هذا البلد، تدعو إلى عبادة الله، وطاعة رسوله ، ومحبة دينه، والأخوّة والتسامح بين المسلمين، ومعاملة الآخرين بطريقة طيبة. وتنهى عن طاعة الشيطان، وتحذّر من أصدقاء السوء، ومن المنكرات، والفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وليس الشريط الإسلامي خطباً ومواعظ فقط، بل هناك تسلية وترفيه، وفرح ومرح، أي مائدة شهية، فيها ما لذ وطاب من الأصناف الطيبة الخفيفة والدسمة.
ولكن لو نظرت إلى الأشرطة الغنائية، لوجدتها تدعو أصحابها ومستمعيها إلى التيه، والضيق، والكلام الفارغ الذي لا فائدة منه، فبعضهم يدعو إلى السهر، رغم معاناته منه، وبعضهم يعاني من الوحدة والفراق، ويتغنّى بهما، وآخرون محرمون من العيشة السوية، ويدعون إلى العلاقات المحرمة، والزنا ويزينونها وغيرها من الأفعال المنكرة. فلو سألتك أنت، أيها تود لابنك؟....أن يسمع ما يفيده، وينير طريقه، ويجعل نفسه طيبة مرتاحة في الدنيا والآخرة - بإذن الله -؟، أم من يدعوه إلى الفسق، والفجور، والضلال، والخسران بتزيين المعاصي، وتسهيل ارتكابها؟
فقال همّام بلا تردد: بالتأكيد إنّ الواحد منّا يفرح ويسرّ حين يرى ابنه طيباً مستقيماً، يخالط أناساً طيبين، يدلّونه على الخير ويعينونه عليه، ولا يريد أن يرى ابنه في المقاهي أو الاستراحات التي لا يعلم أحدٌ ما بداخلها إلا الله .
التفت إلى همّام وسألته: هل تنوي تسجيل ابنك في المركز؟
قال: بإذن الله، وسوف يكون ذلك بعد قليلٍ - إن شاء الله - وسوف لن أتكاسل عن إحضاره بنفسي، وأظن أنّني حققت مكسبين من هذا القرار
يتمث-ل أولهما:- بأنّي صرت أعرف مكان ابني، وإلى أين يذهب كل يوم.
وثانيهما:- أنّي تيقّنت أن ابني يجالس أناساً صالحين، ويتعلم ويتسلى في الوقت نفسه، فلا يضيع وقته في نوم أو سهر، بل في فائدة ومنفعة.
وأعتقد أن القائمين على شؤون هذه البلاد لا يخفى عليهم أنّ من المصلحة تجمّع الشباب في مكان واحد، فيسهّل ذلك معرفة ما يتعلمونه وما يتلقونه من علوم موثوق بها - بإذن الله - وحماية لهم من مخالطة ذوي الأفكار الفاسدة؛ كي لا يستغلونهم في حشو رؤوسهم بأفكار باطلة، تؤدي إلى ضلال الشاب وانحرافه، فتخسره أسرته ومجتمعه.
الفكر والإرهاب
في إحدى الحلقات العلمية التي عقدت لمناقشة الإرهاب وأثره على المجتمعات المدنية، قام أحد المشاركين بعرض أطروحته وكانت تتمحور حول الإرهاب الفكري.
حيث ذكر في معرض حديثه أن الفكر في وقتنا الراهن هو رأس المال وهو الأهم، فإن نحن استطعنا حماية فكر المجتمعات البشرية وعقول شبابها وخاصة المراهقين منهم، فقد حمينا أنفسنا من أخطار جسام تحدق بالمجتمع كله.
وأضاف: ولتعرفوا أهمية الفكر وما يمثله من قوة في شتى المجالات، يكفي أن تعلموا أن واحدة من كبريات الشركات العالمية اليوم، وأغنى شركة حاسوبية في وقتنا الراهن، رأسمالها الذي يفوق مئة مليار دولار، 95% منه فكرة وبرمجيات، أما الخمسة بالمائة الباقية، أو تقل، فهي ممتلكات مادية محسوسة، وهذا دليل كاف على أهمية الفكر، وأنّه المحرك الرئيسي لكل تجمع بشري، فإن صلح نهض المجتمع بأكمله، وإن تفشت فيه الآفات والفتن والقلاقل سقط ذلك المجتمع، واستحالت نهضته، حتى يتم إصلاح فكره.
وبعد أن انتهى ذلك المفكر من إلقاء كلمته، فتح المجال للأسئلة والنقاش.
فقام أحد الحضور وسأل: هل نحن معنيون بما يحدث من أعمال إرهابية سواء أفراداً في مجتمع أو بلداً يفصله عن البلدان المجاورة حدود، ومسافات شاسعة، ليس من السهولة تجاوزها؟.
فأجابه قائلاً: بالتأكيد.. نعم، وإنّي آمل من الجميع بذل كل ما يستطيعون لتفهم أبعاد هذه المشكلة، لأنه يا أخي وكما تعلم أن موضوع الإرهاب الفكري لا يقتصر خطره على شخص بعينه أو فئة من الناس فقط، بل يمتد ذلك ليشمل المجتمع كله، وقد يصل ضرره إلى الدول المجاورة أيضا، فوسائل نقله سهلة، وفي متناول الجميع، وأشدّها خطراً الإنترنت، لذا وجب علينا أن نركز كل حواسنا ونبذل قصارى جهودنا في سبيل الحد بل والقضاء على ما يسمى بالإرهاب الفكري، أو العنف، ومن يسانده ويدعمه معنوياً ومادياً، وما عقدت هذه الحلقة العلمية وغيرها من الحلقات والندوات إلا لمناقشة هذا الكابوس الفكري الدخيل، ومحاولة انتشاله قبل استفحاله في عقول الشباب.
ثم سأل أحد الحضور عن الكيفية التي يبدأ بها الإرهاب أو المسببات الرئيسة له؟
فأجابه المحاضر بالقول: إنه من المعلوم أن الإرهاب في الغالب يبدأ باختلاف وجهات النظر في معالجة موضوع معين، ثم يتطور الأمر إلى تطرف فكري - وهي الشرارة الأولى للإرهاب - ثم إلى محاربة الرأي الآخر، ومحاولة إظهار الجهة المخالفة بمظهر الضعيف أمام الآخرين، وعدم القدرة على إدارة وتسيير ما هو مطلوب منها، وكل ما تأمله تلك الفئة التي تعتمد الإرهاب والترويع منهجاً لها هو الحصول على تنازلات من الطرف الآخر، وت-عدّ هذه الوسيلة السبيل الوحيد لتحقيق مطالبها بعيداً عن الحوار والمواجهة المباشرة؛ لأنها تعلم علم اليقين أنها لن تحصل على شيء من جراء مثل تلك المواجهات، لسبب وحيد هو أنّ مطالبها دائماً تكون صعبة التحقيق، وغير مقبولة من الطرف الأخر.
فسأل شخص ثالث ولكن ما هي المشكلة الحقيقية للتطرف؟
فأجابه المحاضر: على الرغم من بشاعة التطرف والإرهاب وما ينتج عنهما من مساوئ، وما يترتب عليهما من عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع من جميع النواحي النفسية والفكرية والاقتصادية، إضافة إلى التعقيدات الناتجة عن الإجراءات الاحتياطية التي تتخذها الحكومات، وهي ضرورية جداً لمحاولة القضاء على من يحاولون المساس بأمن الأوطان، وتكون النظرة في مثل هذه الحالات واحدة لجميع أفراد المجتمع البريء والمذنب لأن الاحتياطات لابد أن تطبق على الجميع. أقول على الرغم من كل ذلك إلا أن هناك ما هو أشد خطراً من الجرم نفسه وما يترتب عليه من مخاطر، ألا وهو أن من يقومون بتنفيذ جرائم الإرهاب خاصة ما كان منها انتحارياً، يؤمنون إيماناً تاماً أنهم على حق، وأن ما يقومون به هو الصحيح، وأنه لا سبيل لمعالجة ما يرونها مشكلات كبيرة إلا بهذه الطريقة؛ لأنهم يكفرون أصحابها ويحكمون عليهم بالموت، وإن أشعرتهم أنهم بقيامهم بهذه العمليات لا يقتلون خصومهم فقط، بل يقتلون أبرياءً وأطفالاً لا ذنب لهم، أجابوا أن هؤلاء كفرة ومن يخالطهم ويتعامل معهم كافر أيضاً.
فسأل أحد الحضور: ما هو الفرق بين الإرهاب وغيره من الجرائم من الناحية الفكرية والشعور بالذنب، لا من حيث النتائج؟
فأجاب: في كل مكان وفي أي مجتمع المجرم أو الجاني قبل وأثناء وبعد ارتكابه لجريمته يعلم في قرارة نفسه أنه مذنب، أما الإرهابي فلا... حيث يظن الجميع مذنبين إلا هو.
وجميع الإرهابيين من ذوي الفكر المتطرف يؤمنون إيماناً تاما أنهم على حق، وجميع الحالات والأزمات التي ابتلي بها المسلمون كانت في الغالب ناتجة عن أشخاص تظهر عليهم علامات الصلاح، ولهم توجهات طيبة، ولكنها مغالية ورافضة لأي حلول أو تنازلات، ابتداءً بعبد الرحمن بن ملجم الذي قتل علي بن أبي طالب وأظنكم تدرون من هو علي وما هي منزلته عند رسول الله وأعلم أن من ليس لديه دراية بخلفيات مقتله سيقول إن من قتل عليّاً من أعداء الإسلام، ولا يمكن أن يكون أحد المنتمين لهذا الدين، لأننا نعلم ما يكنه كل مسلم لعلي بن أبي طالب من محبة وإجلال، ولكن المفاجأة حين تعلم أن ذلك القاتل رجل مسلم تقي ورع، تعرف ذلك كله بمجرد رؤيتك لوجهه وما يظهر على جبينه من أثر السجود، والمصيبة التي لا يمكن لعقل بشر استيعابها حين تعلم أنه قتل عليّاً ؛ كي يخلص المسلمين من شره، ويتقرب إلى الله في ذلك، أية مصيبة وأي ابتلاء هذا؟!..
أن يقتل علي تقرباً لله وابتغاء مرضاته، فما بالك حين يقتل ذميون في بلاد الإسلام، جاؤوا