ولو يشاء الله لانتصر منهم
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
فقد شارفت محنة الشام، على بلوغ العام! دماء، وأشلاء، وحرق للأحياء، وقتل للضعفة، وهتك لأعراض النساء. مشاهد دامية بمرأى، ومسمع، من العالم (المتحضر)! لا عذر لأحد. الكل يرى بالصوت، والصورة، مناظر تقشعر لها الأبدان، وتستدر دموع أشداء الرجال؛ تجويع، وترويع، وخطف، وتقطيع! (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [التوبة : 10].
ويتساءل المؤمنون، كما تساءل أسلافهم: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)، ويجيء الرد فورًا: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة : 214]. إن استبطاء النصر والفرج نزعة بشرية طبيعية، يعالجها المؤمن بمسكِّنات القلوب، وحسن الظن بعلام الغيوب، وتلمس الحِكم الغائيَّة من وراء آلام الابتلاء. ويلوح في أفق المؤمنين مشاهد تاريخية مماثلة للسابقين الأولين الذين مستهم البأساء والضراء وزلزلوا؛ كـ(القليل) الذي مع نوح، و(الذرية) التي مع موسى، و(الطائفة) التي مع عيسى، و(النُّزَّاع من القبائل) مع محمد، صلوات الله وسلامه، ورضوانه، عليهم أجمعين.
وقد أثمر التأمل المصحوب بالألم، في هذه النازلة الشامية، عن حزمة من الحكم العظيمة، منها:
أولاً: تحقيق التوحيد: فقد انفض عن أهل الشام القريب والبعيد، وأسلموهم لعدوهم، إلا قليلاً، بل قد صدموا بمواقف سلبية، وخيانات سافرة، ممن كانوا يرجون نصرهم، وتأييدهم، وكأنهم يتمثلون قول الشاعر العربي:
قد كنت أحجو أبا عمروٍ أخا ثقة --- حتى ألمت بنا يومًا ملِمَّات
كانوا يأملون من جامعة الدول العربية توفير حدٍّ أدنى من الدعم المعنوي، فبدت الجامعة تغطي سوءة الفاجر، وتمنحه من المهل ما لا تملك، فكأني بأهل الشام ينشدون:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة --- على المرء من وقع الحسام المهند
حينئذٍ أدركوا معنى قوله تعالى
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)[آل عمران:126] فانطلقت حناجرهم تهتف بما في قلوبهم (ما لنا غيرك يا الله)! وتلك حقيقة التوحيد.
ثانياً: تمييز الصف، وانكشاف العدو من الصديق، والطيب من الخبيث: لقد عاشت بلاد الشام عقوداً اختلط فيها الحابل بالنابل، والتبس الحق بالباطل، واختلطت الشعارات، وتسنم ذروة الدين أقزام أدعياء من الصوفية الخرافيين، وعلماء السوء الوصوليين، ودعاة الرفض السياسيين، حتى تشيع كثير من السذج البسطاء سياسيًا، وربما عقديًا، فجاءت هذه الأحداث العظام، لتميط اللثام، عن وجوه اللئام، الذين تواطؤا مع النظام.
لقد عرف الناس عدوهم، وأيقنوا أن المعركة معركة عقيدة، وأن معسكر الكفر، والفسوق، والعصيان، أخلاط من أوباش النصيرية، والصوفية، والعلمانية، اصطفوا بقضهم، وقضيضهم، حماية لمكاسبهم المحرمة، التي كدسوها عبر عقود، في وجاه معسكر أهل السنة والإسلام. وتلك نعمة عظيمة، وحكمة جليلة، امتن الله بها على المؤمنين الأوائل، في مواقف جهادية مقاربة: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران : 179]، (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[الأنفال : 37]
- انكشف النصيرية الحاقدون، المتسترون خلف شعارات قومية، عروبية، بعثية.
- انكشف الرافضة الموالون لإيران، من (حزب اللات) حتى قال كبيرهم الذي علمهم البهت، بصفاقة، وبجاحة: (لا شيء يجري في حمص! شوية إطلاق رصاص! بس!)
- انكشف الصوفية المتخاذلون، المميتون للسنة، المحيون للبدعة، واصطفوا مع الكافر الباغي، حفاظاً على امتيازاتهم، وتكاياهم، وزواياهم، التي يأكلون فيها السحت، ويضللون العامة، ويحذرونهم من دعاة السلفية.
- انكشف علماء السوء الذين ظلوا يسوغون للنظام الباغي كفره، وفسقه، ويسبحون بحمده،ويقدسون، لقاء ليرات يقتاتون بها لدنياهم على حساب دينهم.
- انكشف العلمانيون والليبراليون، الذين يتاجرون بالشعارات الوطنية، وينافقون، فتارة مع النظام، وتارة مع المعارضة، كما يصنع اليربوع (إذا أُتِيَ من قِبَلِ القاصِعاءِ ضربَ النافِقاءَ برأسه فانْتَفَقَ ... ومنه اشتقاق المُنافِقِ في الدينِ) [الصحاح: 2/224]
ثالثاً: سنة الابتلاء: سنة كونية، يستخرج الله بها مكنونات النفوس، وحقائق الضمير، ويستنبط بها إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين. قال تعالى: (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد : 4 - 8]. لا بأس عليكم يا أهل الشام! فما أنتم إلا بإحدى الحسنيين؛ نصر، أو شهادة.
رابعاً: شرط النصر: ربما تأخر النصر، لعدم توفر شرطه، أو أبطأ لعدم اكتماله. وقد صرح الله لعباده بشرطه، وتكفل لهم بالوفاء بوعده، بعبارة محكمة رصينة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد : 7 - 8] . فافحصوا حالكم يا إخواننا، وتعاهدوا قلوبكم، وأعمالكم، وثقوا بنصر الله.
خامسًا: إيقاظ المترددين، من أهل السنة: ظلت فئات، وحكومات سنية، تراوح مكانها، وتجمجم في كلامها، مرتهنة لاعتبارات وهمية، وحسابات خاطئة، تتعامى لعقود طويلة عن حقيقة المعركة، وتهرب من تهمة (الطائفية) التي يمارسها خصمهم المجوسي، الفارسي، بأبشع الصور. لقد أوقفتهم الأحداث على ما لا يمكن لصحيح دين، وسويِّ عقل، وكريم مروءة، أن يرده. فاتضحت لغة غامضة، وعلت نبرة خافتة، وتحركت قوى هامدة، لتصنع شيئًا، وتسلِّح أعزلاً.
ولا ريب أنه (لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ)! ولكننا قوم يستعجلون! فعسى الله أن يعجل بالفرج، ويكشف الضر، ويشفي صدور قوم مؤمنين.