سبب تخلُّفنا المادي هو ضعفُ الإيمان
د.عبدالقادر بن محمد الغامدي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الغني الحميد , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه , وبعد ؛
فسبب كتابة هذا المقال , هو أن بعض ضعاف الإيمان والعلم , ومن في قلوبهم مرض, يظنون أن سبب تخلف المسلمين اليوم مادياً , في كونهم إنما يستوردون لا يصنعون ويصدرون , في أهم الأشياء المادية , يظن هؤلاء أن سبب ذلك كثرة التدين وزيادة المواد الدينية المقررة في المدارس , من قرآن وتوحيد وتفسير وحديث وغير ذلك ! فتجد أحدهم ما أن يتسنى له كتابة شيء حول هذه المسألة حتى يطالب بتغيير المناهج , ويطالب بزيادة مواد العلوم المادية على حساب مواد العلوم الدينية , وربما طالبوا بمدارس مختلطة بحجة أن مثل هذه المدارس لا بد فيها من الاختلاط , وما علموا أن هذا من اسباب العقوبات , وأن شفاء أمة محمد لا يكون فيما حرم عليها كما صح به الحديث الشريف ؛ لذلك أحب أن أبين بالبرهان أن هذا باطل , وجهل , وضلال وانحراف , وأنه يسبب زيادة تراجع الأمة ومما يبين أن تقدمنا المادي سببه ضعف الإيمان الأدلة النقلية والحسية التاريخية ؛
أما الأدلة النقلية فمتواترة , منها : قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ)[الأعراف:96] , ومنها قوله تعالى : (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق:2-3] , ومنها قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل:97] , وغيرها كثير ومن تدبر القرآن طالبا الهدى منه تبين له طريق الصواب .
وفي الحديث عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان هَمُّهُ الآخِرَةَ : جَمَعَ الله شَمْلَهُ , وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبِهِ , وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وهي رَاغِمَةٌ , وَمَنْ كانت نِيَّتُهُ الدُّنْيَا : فَرَّقَ الله عليه ضَيْعَتَهُ , وَجَعَلَ فَقْرَهُ بين عَيْنَيْهِ , ولم يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ ما كُتِبَ له ) رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة , وصححه ابن حبان والألباني .
فالدنيا تخدم الدين كما قال معاذ بن جبل رضى الله عنه : ( يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا , وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج , فان بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظاماً , وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة وأنت من الدنيا على خطر ) .
وفي الحديث عند أحمد وابن ماجة عن ثَوْبَانَ قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (إن الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ , وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ الا الدُّعَاءُ , وَلاَ يَزِيدُ في الْعُمْرِ الا الْبِرُّ ) . صححه جمع من أهل العلم .
والأدلة في هذا أكثر من أن تحصر .
أما الأدلة الحسية التاريخية , فمعلوم أن تقدم أوروبا المادي اليوم سببه قوة تدين المسلمين عندما كانت علومهم الشرعية عظيمة وإيمانهم بالله قوياً , وهذا يعترف به كل المؤرخين والمحققين المنصفين في الشرق والغرب , وقد كتب في ذلك كتب كثيرة جلت هذه الحقيقة ونقلت كلام المؤرخين والعلماء الغربيين قبل الشرقيين , فقد كان الناس قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم في ظلام دامس , وحين مبعثه وبعده في القرون الأوروبية الوسطى كانت أوروبا في عصورها المظلمة , الغارقة في التخلف والخرافة والرجعية , فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعث بسبب القرآن والسنة في الأرض نهضة وتقدماً عظيمين , تحرك بسببه العرب مؤمنيهم وفلاسفتهم , وبسبب احتكاك الأوروبيين بهم تأثروا بهم , وأخذوا منهم منهج التجربة والملاحظة ورفضوا منطق أرسطو , وسرقوا كتب المسلمين , في الوقت الذي ضعف إيمان المسلمين , فتخلفوا ماديا , وأصبحوا يأخذون عن تلاميذهم الغربيين , وكان هذا معروفا عند الغربيين إلى أن نشأ فيهم الحاقدين , فنهوا الناس عن نسبة الفضل إلى المسلمين لألا يتأثر الأوروبيون بدينهم , وأنكروا هذه الحقائق حتى نسيت عند أكثرهم .
وما يفعله هؤلاء من نسبة التخلف المادي إلى الدين وأهل التدين , سنة معروفة لأعداء الرسل , كما قال تعالى : (فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأعراف:131] .
ولا يعارض هذا كونه تعالى قد يبسط الدنيا للكافر والفاجر , لأني أتكلم عن ضعف المسلمين العام , ولأن البسط للكافر والفاجر إنما هو استدراج وهو ضار غير نافع , وإنما أتكلم عن التقدم المثمر النافع وهو الخادم للدين , المورث سعادة الدارين . فسببه الإيمان وقوة العلوم الشرعية , ونحن نشهد اليوم ضعفاً في العلوم الشرعية في الجامعات وغيرها , سبَّب الضعف في غيرها , فإن المؤمنين إذا قوي إيمانهم قويت غيرتهم وحرصوا على الاستغناء عن عدوهم وإعداد القوة للدفاع عن بيضتهم , فبالنِّية هذه يفتح الله عليهم , ويعينهم كما تعلَّم زيد اللغة السريانية في ثمانية عشر يوماً لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك , ليقرأ له رسائل بالسريانية .
فهذا بيان مختصر يكفي اللبيب , ومن أراد التوسع فعليه بالكتب المطولة في ذلك , والله تعالى أسأل أن يردنا إلى مجدنا وعزنا , وأن يهدي ولاة أمورنا وضالنا , وأن ينصرنا على عدوه وعدونا , والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .