"ليل نهار/ ليل نهار/ أطرق بابكَ الحديدَ بالتياع من يموت/ وأنت تسمع اهتزاز الباب/ غير آبه/ بما يدور خارج الأسوار"، يكتب الشاعر الفلسطيني الشاب رائد وحش في مجموعته الأولى، اللافتة، "دم ابيض". وهو اذ يطرق باب القصيدة، يبدو فعلا غير آبه بما يجري خارج اسوارها، مأخوذاً فيها حتى آخر نقطة من دمها، مساهماً في بناء نص فلسطيني جديد، مختلف، "أناني" في المعنى الجميل للأنانية، و"ثائر" على طريقته.
ليس خاطئا ان نقول إن تجربة الشعر الفلسطيني ملتبسة ومعقدة وغير واضحة منذ منتصف القرن الماضي حتى الآن، مع أن كثيراً من الكلام قيل عن تألق المناخات الشعرية التي صنعت لغات مختلفة في المرحلة المذكورة، مثل لغة توفيق زياد ولغة فدوى طوقان ولغة محمود درويش أو سميح القاسم وغيرهم. لكن ماذا يعني أن يكتب شاعر فلسطيني "عكس" محمود درويش، أو على الأقل عكس "الكليشيه" الملصق بشعر محمود درويش، اي شعر المقاومة؟ ماذا لو لم يكن هذا الشاعر الفلسطيني ميالاً للكتابة عن الأرض والحق والمنفى والغريب والقضية وهوية العربي؟
رائد وحش واحد ممن لم يعيشوا فوران الشعر الفلسطيني الثوري، ذي النفس المتقد. في مجموعته هذه، الصادرة حديثا عن "دار التكوين" في دمشق، يبدو هذا الشاعر الذي لا يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر، كأنه يحاول تأكيد أهمية المجانية في القصيدة، ولعبة صناعة العبارة وتكوين الصورة والأداء اللغوي. واذ يفعل ذلك، يقدّم نموذجا ناجحا عن المشهد الشعري الفلسطيني الجديد في قصائد ديوانه الست عشرة. "لستُ شخصاً مهماً/ كثيرون مثلي يذوبون كالجمر في الماء"، هو يقول في قصيدة "صندوق فرناندو بيسوا"، عاكساً خيبة جيل وآلامه "الخاصة"، فتعود معه القصيدة إلى تحررها من مشكلات التاريخ العام وعقده، ليطغى على روحها التاريخ الشخصي، الحميم.
رائد وحش يعيش في سوريا، ولطالما كانت مشكلة الشعراء الفلسطينيين المقيمين في سوريا أن الحاجة إلى رفع "العيار" والنبرة تخيّم عموما على نصوصهم ليعلو صوتهم فوق أصوات الآخرين، غير الفلسطينيين. لذا ظهرت على مر العقود الأخيرة كتابات شعرية وروائية فلسطينية لا يمكن قراءتها كأشكال مستمرة ولا متجددة، بل فقط كنصوص تصنع الواقع "الإنشائي" للثقافة الفلسطينية، أي الواقع الذي تعيشه المجموعات الفلسطينية في متاهات الدول التي لجأت إليها. على العكس مما جرى في لبنان حيث تم إنتاج نص آخر، مختلف، قد يكون ابلغ تعبير عنه نص الشاعر سامر ابو هواش مثلا، المتحرر من عنوان عريض هو: "هنا يوجد شعر فلسطيني". ما خاضته الكتابة الخلاقة الفلسطينية في سوريا معقد للغاية، ويستند في غالبية مراحله إلى تجربة المعاناة المرّة، ومن غير المبالغ القول إنه لم يكن "يُسمح" لشاعر فلسطيني يعيش في سوريا – أو على الصح لم يكن هو يسمح لنفسه - بسوى الكتابة عن الرصاص والضفة والكوفية والزيتون. لكن رائد وحش لم يستسلم لتلك "الغواية"، أو لنقل إنه أطلق سراح قصيدته وأنقذها من "لعنة" النص الواحد، من ذلك القميص القدري الضيق. "أكتب كي أتأمّل... كي أتحوّل"، يقول وحش، ويمكن العثور على تحرر كامل للنص من عقدة الكتابة النضالية في صفحات "دم أبيض".
تتركب عوالم النص الشعري من أجزاء مختلفة وغير متجانسة لكنها متكاملة كالبازل، فتتحول مثلا بيئة جرداء مثل خان الشيح، إحدى القرى جنوب دمشق، إلى هارلم، وتصير تماثيل مهملة في شوارع العاصمة قطعا مذهلة في برك الماء في الساحات في مكان ما من العالم. انها قصيدة التفاصيل التي تجاهد اللغة الفلسطينية لبلوغها: "لم أنتبه للخطأ/ كان فنجان القهوة بجانب المحبرة/ وفي ذروة الاستغراق مددت يدي/ لآخذ رشفة/ عند القطرة الأخيرة من الحبر/ حاولت تصحيح الغلط/ غمست القلم في الفنجان".
لا شك في أن عثرات الكتاب الأول موجودة في "دم ابيض"، لكنها غير فادحة ولا تشير إلى نفسها، تاركة لذهن القارئ أن يتصور الكثير عن عناء كتابة نص يحاول الخروج من قيود التقاليد الشعرية الطالع منها، ليقول إن هناك "شيئا آخر" يقدّمه، وحيوات اخرى يقدّمها الموت الفلسطيني.
فلسطيني
عدد المساهمات: 13
تاريخ التسجيل: 04/03/2008