هى المرة الأولى فى تاريخ مصر التى يفوز فيها مرشح- أى مرشح - بهذه النسبة المعتادة فى الديمقراطيات الحديثة، والتى تعكس فى الغرب حالة مغايرة تماماً لما تعكسه هنا التجربة الوليدة.. هذه النسبة تعنى عندهم حضوراً قوياً لمؤسسات مستقرة تدير شؤون الأوطان، بحيث تتقارب السياسات، ويقل تأثير الأشخاص والأفكار والأيديولوجيات بعد أن استقر وجدان الجموع على أساليب وطرق ومسارات، قد تختلف، تؤدى إلى أهداف متقاربة تحكمها مجموعات من القيم المستقرة وصل إليها المجتمع بعد كفاح طويل وشاق من أجل نبذ العنف، وتسكن جميع أشكال الصراع المجتمعى العنيف ارتضاء بقواعد سلمية تكفل سيادة قانون واحد يحترمه الجميع، وتداول للسلطة عبر آليات ديمقراطية تنتهى بصندوق انتخابى يستجيب الجميع لنتائجه مادامت مرت جميع الآليات السابقة بما يتوافق مع تقاليد تتكرس مع الممارسة المستمرة، وتصحيح الأخطاء بروح تنم عن إدراك عميق بأن الجميع فى قارب واحد، لا مصلحة لأحد فى تركه للعواصف، أو تعمد إغراقه بما يحمله من أطياف متنوعة ومتصارعة.
ولكن هذه النسبة عندنا لا تعنى نفس الشىء للأسف الشديد.. فهى لا تعنى سوى الحيرة والتردد والتوجس.. هذه نسبة توجه رسالة مهمة، حيث إنها غير مسبوقة، بأن عصر التفويض - ناهيك عن البيعة - قد انتهى إلى غير رجعة.. الشعب أراد أن يقول لمن يسمع ويفهم إن هذا ليس سوى تكليف بإدارة مرحلة مرتبكة أوصلتنا إليها مجموعة من الأخطاء مع جميع الأطراف، بحيث وجد الناس أنفسهم أمام خيارين مرفوضين تماماً.. ولعل عدد المقاطعين والمبطلين، إضافة إلى هذه النسبة المتساوية تقريباً، تعكس حالة الرفض أكثر مما تعكس حالة القبول.. نحن فى الشرق شعوب عاطفية لم نتعود على هذه النسب.. تعودنا على الأبيض والأسود، تعودنا على أن نحب أو نكره.. تعودنا أن نقبل أو نرفض، أما هذه النتيجة فلا دلالة لها سوى رفض الخيارين معاً. لا الشعب يبايع الداعين لدولة دينية مستبدة، يحتكر القائلون بها تفسير الدين والحقيقة، بل يتولون فرضها - باللين أو بالقوة - على المختلفين معهم.. دولة يتولى إدارتها كفار بالديمقراطية، باعتبارها إرادة الشعب، ويرون أن «انتخابهم» واجب دينى، وأن نجاحهم فى كسب ثقة الناس، المختلفة والمتباينة، مكتوب فى «اللوح المحفوظ»، كقدر لا يمكن لبشر تغييره، كما أنهم يتحالفون مع مجموعات متطرفة رافضة لنمط الحياة الإنسانية التى حققها كفاح البشر عبر قرن كامل، وتمتع بعده الناس بحقهم فى الحياة بحرية وكرامة واحترام لإرادتهم فى اختيار أسلوب الحياة الذى يكفل لهم السعادة والرفاهية، وألا يتم فرض أسلوب مغاير لأن «آخرين» يتصورون أنهم يعرفون ما هو خير لهم فى الدنيا وفى الآخرة.
كما أن الشعب بهذه النسبة لم يطاوعه قلبه على الإتيان بشخص من نظام ثار عليه، وأراق الدماء من أجل الخلاص منه، ولم يصدق وعود هذا الشخص، ولا نفيه أنه امتداد للنظام الساقط.. لم يصدقه الناس وهم يتأملون رموز النظام السابق تخرج من جحورها، متصورة أن «كابوسهم» التى هى أعظم ثورة فى تاريخ هذا الشعب قد آلت إلى هذا الاختيار العبثى لآخر رئيس وزراء فى عهد من أذاق الشعب كل ألوان القهر والإقصاء، والتجريف لكل طاقته الفكرية والإبداعية القادرة على صنع وطن يليق بشعب عريق متحضر.
نحن الآن أمام استمرار الثورة.. نحاول أن ندفع القارب إلى السير حيث التوقف هو الخراب للجميع، ولكننا سوف نبقى مفتوحى الأعين، متيقظى الضمير فى مواجهة من فاز، ومن لم يفز فسوف نستوعب دروس الماضى، ولن تستهلكنا المعارك الجانبية.. ننتظم فى مؤسسات جماهيرية حقيقية.. نقترب من الناس ونعايشهم، ولا نكتفى فقط باستخدامهم كأصوات انتخابية، «هل لاحظنا أن الفائز حصل على أصوات جميع المحافظات البعيدة عن المركز والدولة والنظام والوفرة النسبية والتعليم الجيد والتأثيرات الثقافية، بينما حصل الخاسر على أصوات القاهرة وأغلب محافظات الدلتا الأكثر استفاة من مميزات الدولة؟!».
أصوات انتخابية تم استغلال هامشيتها وفقرها، وما يفرض عليها من مستوى تعليم متدن، ومستوى وعى يرفض الحياة لأنه لم يعرفها أبداً، ولم يحلم بها أصلاً، لأنها خارج عالمه، بعد أن طال تجاهله من قبل كل السلطات، وكأن تجاهل رموز الثورة لهم هو من أوصلنا إلى تحقق الكابوس على أرض واقع نسعى إلى إعادة بنائه أكثر رحمة وأكثر إنسانية.