محلات الموضة البريطانية على كف عفريت (حسب ما يقوله البعض). من هؤلاء من يتوقع منها الاعتراف قريبا بالهزيمة أمام غزو الإنترنت، والبعض الآخر يلقي لها الأعذار قائلا إن سبب تراجع مبيعاتها يعود إلى تقلب أحوال الطقس التي تجعل المستهلك يعزف عن زيارتها فضلا عن صعوبة، إن لم نقل استحالة، ركن السيارات في أماكن قريبة من هذه المحلات، بجانب استفحال الأزمة الاقتصادية. فما إن تعلن المراكز المالية أنها بدأت تتعافى حتى تنتكس وتزيد سوءا. لكن على الرغم من كل هذا اللغط المثار حول مصير الموضة الشعبية في بريطانيا، فإن أي سائح متعطش للتسوق يعرف أنها تقدم أفضل ما يمكن الحصول عليه عندما يتعلق الأمر بالجديد والمبتكر، وبأسعار معقولة جدا مقارنة بباقي العواصم العالمية. والزائر إلى أي منطقة من العاصمة، سواء كانت «كامدن تاون» أو «بريك لاين»، غرب لندن، لا بد وأن يمتع عينيه بولادة صرعة أو تقليعة غريبة قد تثير الاستغراب أو الاستنكار، لكنها تجد طريقها إلينا بشكل أو بآخر طال الزمن أو قصر. فما لا يمكن أن ننساه أن من رحمها ولدت موضة الـ«بانكس» في السبعينات ومنها انطلقت موضة الهيبيز في الستينات. فإذا كانت باريس تشتهر بأناقتها العصرية ونيويورك بأسلوبها الـ«سبور» فإن لندن خصوصا وبريطانيا عموما تشتهر بفنونها واتجاهاتها المؤثرة. فيها تولد الكثير من الاتجاهات التي تلتقطها عواصم أخرى ثم تروضها أو تضفي عليها توابلها وبهاراتها. فيها أيضا يولد الابتكار الفني والجنوني على حد سواء، وإن تم ترويض هذا الأخير لأسباب تسويقية وتجارية. وإذا كان الكثير من المتابعين، بمن فيهم المصممون، يتهمون المحلات الشعبية بأنها تسرق أفكارها من عروض الأزياء وتسارع لاستنساخها وطرحها بأسعار زهيدة، فإن هناك جانبا آخر من القصة لا يمكن إغفاله، وهو أن هذه الشوارع، أو بالأحرى ثقافة الشارع اللندنية، كثيرا ما تلعب دور الملهم للمصممين.
هذه هي قوة الموضة البريطانية الشعبية، التي جعلت أنا وينتور، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» الأميركية تعلن، خلال أسبوع لندن الماضي، إعجابها بها، قائلة إن محلاتها الشعبية تتميز عن غيرها في كل أنحاء العالم وتتفوق عليها، ومشيدة بالطريقة التي تتعامل بها الفتيات العاديات مع الموضة، وجرأتهن وثقتهن في مزجها مع بعض لخلق أسلوب خاص بهن. شهادة تعتز بها البريطانيات وتؤكد أن متعة التسوق في شوارع الموضة، سواء كانت في «أكسفورد ستريت» أو «نايتسبريدج»، وما يتفرع عنهما من شوارع كثيرة، تخفي أسرارا ومحلات يمكن تشبيهها بمغارات علي بابا، فريدة من نوعها. فكل شيء متوفر، بدءا من الصرعات والتقليعات في «كامدن تاون» إلى التفصيل المتقن الذي لا يعلى عليه في «سافيل رو». ما يبقى على الزائر سوى التسلح بالذوق الخاص والإلمام بفن مزج التناقضات المطروحة ليحصل على خلطة مثيرة.
لكن على الرغم من هذه الحقيقة التي يعرفها صناع الموضة والمتسوق العارف، فإن أجراس الخطر لا تزال تدق. فالحالة الاقتصادية لم تتحسن، ولا يبدو أنها ستعرف أي تحسن في القريب العاجل، الأمر الذي يؤثر على ثقة المستهلك، حسب المراقبين، خصوصا أن هذا المستهلك ينتمي في الغالب للطبقات ذات الإمكانيات المتوسطة والمحدودة. وعوض أن تُعقد عليه الآمال ليتخلص من عقدة الخوف من المستقبل، ومن عدم ثقته بتقلبات السوق، فإن مهمة إنقاذ هذه الشوارع، معقودة في المقابل على الطبقات الراقية والثرية، بدليل أن كاثرين ميدلتون، دوقة كمبردج، أصبحت الشماعة التي تعلق عليها هذه الآمال.
ما يحسب لها أنها حتى بعد زواجها من الأمير البريطاني ويليام، وانتقالها من فتاة عادية من الشعب إلى مرتبة دوقة، فهي لا تزال تظهر بفساتين من هذه المحلات الشعبية بين الفينة والأخرى، سواء كانت من «هوبس»، أو «ريس». ولا يختلف اثنان أن تأثيرها قوي، إذ ما تظهر بزي حتى ينفد من السوق ويتم تقليده من قبل محلات أخرى. المرأة المقتدرة، بدورها، باتت تميل إلى مزج الغالي بالرخيص، سعرا، حتى تحصل على أسلوب خاص بها. ولاستقطاب المزيد من هؤلاء الزبونات، وفي الوقت ذاته ترسيخ مكانتهم في سوق تشهد منافسة شرسة، بات لزاما على المحلات الشعبية أن تطور ما تطرحه بشكل يصعب التمييز بينه وبين ما نراه على منصات عروض الأزياء إلا بالتمعن في بعض التفاصيل عن قرب مثل القماش والنقوشات.
وغني عن القول إن استقطاب هذه الشريحة لا بد أن يجر رجل الطبقات الأخرى. الخطوة الناجحة التي اتخذتها هذه المحلات بهذا الاتجاه، أنها بدأت توظف خريجي معاهد مهمة مثل «معهد سانت مارتنز للتصميم والفنون» الذي تخرج منه أمثال جون غاليانو، الراحل ألكسندر ماكوين، ماثيو ويليامسون، ستيلا ماكارتني وغيرها من الأسماء المؤثرة. فبحكم أنه ليس بإمكان كل واحد تخرج من هذه المعاهد، ولو بدرجة شرف، أن يصبح جون غاليانو آخر، لأن عدد بيوت الأزياء العالمية محدود مقارنة بعدد المتخرجين الباحثين عن عمل وعن متنفس لقدراتهم الإبداعية وحبهم للموضة، كان عليهم القبول بالواقع والعمل ضمن فريق، على أمل أن يضحك لهم الحظ في يوم من الأيام.
وما من شك أن هذه العملية كانت بمثابة نقلة نوعية ارتقت بشوارع الموضة في العقد الأخير، وكان لها تأثير إيجابي على ما تطرحه من أزياء باتت في الكثير من الأحيان تنافس ما تطرحه كبريات بيوت الأزياء. فمحلات «توب شوب» مثلا تقدم خطا تعرضه في أسبوع لندن للموضة، وعلى الرغم من أنه أغلى من خطها العادي، فإنه يبقى زهيدا وبرخص التراب مقارنة بالماركات العالمية.
كما أن دار «يايغر» دخلت عروض لندن منذ بضعة مواسم نافضة عن نفسها غبار الزمن الذي علق بها وباسمها لفترة طويلة، إلى جانب محلات أخرى مثل «مونسون»، «ريس»، وغيرهما ممن يستعينون بمصممين مبدعين، سيبقون جنودا مجهولين يغنون حياتنا ويستميتون في الدفاع عن الموضة بالابتكار والأناقة ذات النكهة البريطانية التي لا يمكن أن تخطئها العين.
لحلم بالنجومية والثراء ولدت ثقافة موضة سريعة
* تتمتع صناعة الموضة ببريطانيا، على مدى التاريخ، بالقوة وبشخصية ترفض أن تعترف بالهزيمة أو تقبل بها. فقد مرت بعدة أزمات ولم تقض عليها، وفي عام 2011 نشرت دراسة وافية أكدت أنها قطاع اشتد عوده وأصبح أهم من قطاع صناعة السيارات، حيث تقدر بـ21 مليار دولار في السنة، وتوظف آلاف الأشخاص. ومؤخرا نشرت صحيفة الـ«غارديان» دراسة أخرى أكدت بأنها فعلا تحقق ضعف ما تحققه قطاعات أخرى بما فيها قطاع العقار، وهذا وحده يجعل أي شخص يتوقف عن التعامل معها كمجال سطحي خاص بامرأة لا شاغل لها سوى التسوق ومتابعة الألوان وآخر صيحات الموضة. الحكومة البريطانية نفسها غيرت طريقة تعاملها معها، وبدأت تدعمها بقوة كأحد ركائز الاقتصاد التي لا يستهان بها.
صحيح أن الوضع الآن لا يدعو إلى التفاؤل، لكنه مجرد سحابة صيف لا بد وأن تنقشع، بالنسبة للبعض ممن يبحثون عن حلول تخفف من اختناقها. من هذا المنطلق، وبحس التحدي المترسخ في الشخصية البريطانية، انتبهوا أن الخريطة الشرائية باتت تختلف عما كانت عليه، كذلك الثقافة الاجتماعية. فالآن أصبحت النجمات وما يلبسنه البوصلة التي تقتدي بها الشابات، خصوصا مع استشراء ثقافة النجومية السريعة التي ولدتها برامج الواقع وما شابهها، وما تتطلبه من منتجات جديدة تخاطبهن. فبحكم أن إمكانياتهن لا تسمح بأزياء راقية، تمثل الحل في نسخ منفذة بطريقة جيدة لجذبهن. ونجحوا إلى حد كبير في ذلك، إلى حد أن بعض المصممين الكبار يعترفون أن ما تطرحه هذه المحلات، يصعب انتقاده، بل أصبح منافسا قويا لهم، وفي بعض الأحيان يؤثر على مبيعاتهم. ثم لا بد من التنويه هنا بأن الحاجة المادية شجعت البعض من هؤلاء المصممين على التعامل مع هذه المحلات بتصميم تشكيلات خاصة لامرأة تحلم بقطعة بتوقيعهم، لكن لا تجد لمحلاتهم الخاصة والراقية سبيلا، مثل جاسبر كونران، ماثيو ويليامسون، بيتي جاكسون، جون روشا وغيرهم ممن تتوفر تصاميمهم في محلات «ديبنهامز» أو «سيلفريدجز» وغيرها.
- حتى عندما يتبنى الناس سياسة التقشف في جوانب أخرى أو تمر المرأة بظروف عصيبة، فإن الموضة من الأمور التي يصعب عليها الاستغناء عنها، لأنها جزء من الروتين اليومي. خلال الحرب العالمية الثانية، مثلا، شهدت مبيعات أحمر الشفاه القاني ارتفاعا، كذلك مبيعات جوارب النايلون، ومؤخرا رأينا كيف أن أسبوع لندن، وفي عز الأزمة المالية العالمية، اشتد عوده وزادت قوته، كما أصبح محطة من الصعب عدم التوقف فيها بالنسبة للمشترين ووسائل الإعلام. المصممة أنيا هيندمارش تعيد السبب إلى ما سمته بتوقيع «صنع في بريطانيا» الذي أصبح له وقع مهم، لأنه «يعبر عن ترف أو أسلوب معين» سواء كان من «بيربيري» أو «مالبوري» أو من محلات «أوايزيس» أو «ريس» أو «ويسلز» أو «توب شوب» أو غيرها من المحلات الكبيرة المترامية في شوارع الموضة.
- محلات «جون لويس» واعترافا منها بسحر «صنع في بريطانيا» ستطرح في شهر أغسطس (آب) المقبل مجموعة محدودة من الأحذية تم صنعها في مصانع «نورثهامبتون» المعروفة بجلودها المترفة وحرفيتها العالية، فيما ستتعاون محلات «كلاركس» مع شركة «هاريس تويد» لطرح مجموعة أحذية نسائية هذا الخريف.