منذ أيام أرسلت لي صديقة جانبا من شعر صلاح جاهين ربما ليقينها بأنه شاعر مفضل عندي اعتبره صوت العقل والضمير لجيلي وأعتبره فيلسوفا وفنانا شاملا امتهن الرسم والشعر والتمثيل والكتابة بأنواعها ومازال صوته ينساب في القلوب والضمائر مثل موج البحر علي شاطئ هادئ ممتد.
والطريف ان الرسالة وصلتني وانا احاور نفسي عن انواع الارتباط بالامكنة حيث اني ارتبط بالقاهرة لأنها المدينة التي ولدت فيها وامضيت العشرين عاما الاولي من حياتي في حضنها. ثم ارتبطت بمدينة درست بها واسست لمفاهيم الصداقة والثقافة عندي. ثم انتقلت للعمل في مدينة ثالثة كانت ومازالت شاهدا علي زواجي ونجاحي المهني وامومتي وانتقالي السلس من منتصف العمر الي ما بعده. ومن ثم حيرني التساؤل لماذا يظل ارتباطي بتلك المدن قويا متصلا ولكنه ارتباطا مختلفا نوعيا ونفسيا وفعليا؟
ثم جاءتني الرسالة تحمل كلمات جاهين رحمه الله:
علي اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء
انا مصر عندي أحب وأجمل الاشياء
بحبها وهي مالكة الارض شرق وغرب
وبحبها وهي مرمية جريحة حرب
بحبها بعنف وبرقة وعلي استحياء
وأكرهها والعن ابوها بعشق زي الداء
واسيبها واطفش في درب وتبقي هي في درب
وتتلفت تلاقيني جنبها في الكرب
والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب.
قرأت تلك السطور وكأنما بعث جاهين حيا وأتاني بخطي واثقة ليهمس في أذني بأنه لا ارتباط يوازي ارتباط الانسان بالوطن الذي خلق من ترابه وأكل من ثمره وسمع اغانيه وآهاته واختزل في وجدانه معني الوجود في نظرة حانية من والد او ابتسامة حبيب أو لحن اغنية ملأت فراغ قلبه بالامل.
بعد القراءة داخلني يقين بأن ارتباطي بمصر هو ارتباط بناسها. وحين تهبط الطائرة علي ارضها يغشاني حب قوي لكل شيء مهما مسه القدم ومهما تبدل من حال الي حال. أفرح حين يحييني حارس البناية التي اسكن. واضحك للنكات التي يرويها السائق من دون ان تشي ملامحه الجادة بأنه يروي نكتة. ويعجبني زهو اخصائي الجبن في السوبرماركيت وهو يقطع بسكينه الحاد عينة صغيرة من الجبن ويناولها لك بثقة عالية لكي تتذوق الطعم قبل ان تطلب الكمية التي تريد. وكم اشعر باطمئنان حين ادخل بيتي بعد سفر فاكتشف ان احدي قريباتي حرصت علي تعمير البراد بالحليب والعصير والخبز وخزانة المطبخ بالشاي والسكر والبسكويت لكي لا اشعر بحرمان او غربة في تلك الساعات الاولي بعد الوصول.
الناس اذن هم زادي في مصر ومحبتهم هي خاتم سليمان الذي يخرج منه خادم امين يقول شبيك لبيك القاهرة تحت امرك وبين يديك.
وحين فكرت في مدينتي التي درست بها ادركت ان ارتباطي بها لا يخرج عن اسوار الجامعة التي شهدت تطوري من فتاة تبحث عن صوت ومعني الي اكاديمية تحب المعرفة للمعرفة وليس تطلعا الي شهادة او وظيفة. اتذكر كل الوجوه التي عرفت من هيأة التدريس الي الزملاء والزميلات واتذكر الكتب والمسرحيات ولحظات الاكتشاف وادرك لماذا استمرت تلك العلاقات رغم مضي عشرات السنين وتغير الاحوال .
ثم انتهي بي التفكير الي المدينة التي احتوتني علي مدي سنوات طوال . افكر في بيتي الصغير وابنتي التي استنكرت وهي طفلة ان يجالس ابوها خالها ساعات طوال يقضيانها في الحديث ولعب الطاولة ولا يعيرانها اهتماما فاذا بها تلتقط زهر الطاولة بحدة وتعدو به الي حديقة البيت وتلقي به بقوة الي الخارج . فاصبح ذلك السلوك طرفة ونادرة اصبحت جزءا من تراث العائلة. افكر في تعاقب الفصول وهبة الربيع التي تلون الدنيا بزهر التفاح والكرز ثم يسحبني تفكيري الي عازف يجود بموسيقاه علي زوار الحي التجاري بلا دعوة ولا اجر والي جواره بائع الزهور ينادي بصوت جهوري بأن الباقة بجنيهين والباقتان بثلاثة.
ان غبت طويلا اشتقت الي صور المدينة وايقاع الحركة فيها وتعاقب الفصول . و لكن يبقي حبي للبشر ملكا للناس في بلادي.
فوزية سلامة