لمحني رفيق عمري هذا الصباح وانا ماشية علي عكازين امر بهما الطبيب الجراح قبل ان ابرح المستشفي حيث استبدلت ركبتي اليسري باخري جديدة سوف تمنحني قدرة علي الحركة تحاكي قدرة المرأة المذهلة. قال ماذا تكتبين اليوم ؟ عن الجراحة؟ قلت لا , بل عن الورد. رفع حاجبيه دهشة وقال : الله معك.
أما الورد فقد حرك مشاعري حين سلمه لي ساعي البريد في صندوق كبير مكتوب عليه: انترفلورا. والانترفلورا شركة متخصصة في توصيل الزهور الي المنازل من اية بقعة علي سطح الأرض لمن يطلب.
حين قرأت الرسالة الملصقة علي الصندوق سالت دموعي تأثرا. وهذه قصة عمرها عشرون عاما.
المثل الشعبي يقول: يا مربي في غير ولدك يا باني في غير ملكك.
وانا وان كنت من عشاق الامثال الشعبية في كافة الثقافات اعترف اليوم بأن المثل قد يخطئ بينما تصيب التجربة الانسانية.
قبل عشرين عاما كان صديقتي المقربة ترافق زوجها وولديها في المملكة العربية السعودية بسبب عمل الزوج. ثم قررا ان يلتحق ابنها الاكبر بمدرسة داخلية معروفة في الدولة التي اقيم بها وأعمل. وعليه اتصلت بي وسألتني ان كنت مستعدة لاستضافة الصبي كل عطلة نهاية اسبوع لأن البديل هو ان يذهب كل الطلاب الي ذويهم ويبقي هو وحيدا في المدرسة.
وبالطبع وافقت علي الاستضافة ولكني لم اوافق علي المبدأ. قلت لها رأيي بالحاح وهو ان الصبي اصغر من ان يقتلع من جذوره ويبتعد عن والديه واخيه ويلقي به الي مدرسة جديدة وثقافة جديدة عليه في كل شيئ . ومهما كنت حنونة عليه في عطلات نهاية الاسبوع لن اغنيه عن حنان امه. قلت لها سوف تندمين. و لكنها لم تسمع ولم تع. وفي النهاية آلت الي اصعب مهمة في حياتي. فقد كنت اما لابنة ولم يكن ما مضي من حياتي أعدني لرعاية صبي مراهق.
كنت اذا ذهبت الي المدرسة لاصطحابه الي بيتي اقابل بصمت حزين. كانت والدته تجد في ارسال ما لذ وطاب من الاطعمة التي تعدها بيديها من اجله والحلوي بانواعها كلها مصنفة وعلي كل منها بطاقة لكي يأخذها الي المدرسة ويتناولها يوما بعد يوم. وربما كانت تلك اللحظات التي يفض فيها صندوق الحلوي والطعام هي اللحظات الوحيدة التي تكشف عن شبح ابتسامة.
وظفت كل ما اوتيت من فطرة في انجاز المهمة بدءا بتوطيد علاقتي الاجتماعية بالاسر التي من الله عليها بابناء في مثل عمر ”أحمد“ لكي نتزاور في ايام العطلات . وكم سافرنا بالقطار لزيارة بعض الاصدقاء وكم تفرجت معه علي افلام لا استسيغ منها سوي انها تروق للمراهقين, وكم اعددت الهامبورجر والبطاطس المقلية من اجل خاطره.
انتهت مرحلة الدراسة وتخرج وتزوج ودعيت الي عرسه واستمر اغترابه هذه المرة في الولايات المتحدة بسبب العمل. وكثيرا ما اطيل النظر الي صورة ارسلتها لي امه لابنته الطفلة التي تشبهه كثيرا. وكان يمكن ان تكون تلك هي نهاية هذا الفصل من تاريخه الشخصي الذي تقاطع مع تاريخي في تلك الفترة. فلا مراسلات بيننا بسبب انشغال كل منا في حياته وعمله الا من السؤال عن الصحة والاحوال احيانا بوساطة امه, صديقتي.
منذ يومين خرجت من المستشفي بمعونة عكازين وبفضل الله اشعر بتحسن بطئ يوما بعد يوم واشكر الله سرا وجهرا في جميع الاوقات. وفي ساعة مبكرة من صباح اليوم دقت شركة الانترفلورا بابي وقرأت كلمات أحمد وزوجته علي البطاقة فسالت دموعي. فقد اختزلت باقة الورد تلك التجربة الانسانية الفريدة التي عشناها قبل عشرين عاما والتي كذبت المثل القائل: يا مربي في غير ولدك يا باني في غير ملكك.
فوزية سلامة