تعظيم الله جل جلاله
تأملاتٌ وقصائد
تأليف
أ.د. أحمد بن عثمان المزيد
أستاذ الدراسات الإسلامية
كلية التربية -جامعة الملك سعود
مدار الوطن للنشر
* * *
المقدمة
الحمدُ للهِ الذي رفعَ السماءَ بقدرتِهِ وبسطَ الأرضَ بمشيئتهِ ومهَّدَها للسُّلَّاك، وسَخَّرَ الفُلكَ ومهَّدَ المُلْكَ ودبَّر الأملاك.
الحيُّ القيومُ الذي لا تأخُذُه سِنَةٌ ولا نومٌ، الذي خلقَ الموتَ والحياةَ وقدَّر النجاةَ والهلاكَ.
الذي له الخلقُ والأمرُ، وبيدهِ الإطلاقُ والإمساكُ، الذي أنشأَ اللوحَ والقلمَ، وعلَّمَ الإنسانَ ما لم يعلمْ ووهبَ له العقلَ الكاملَ والفهمَ والإدراكَ...
والصلاةُ والسلامُ على البشيرِ النذير والسراج المنيرِ، أعظمِ الخلقِ خشيةً لربّهِ وتعظيمًا له، وتمجيدًا لجلالِهِ، وعبادةً وذكرًا وشكرًا ومحبةً وخوفًا ورجاءً ورغبًا ورهبًا.
واللهُ ـ هو أهلُ الثناءِ والمجدِ، وصاحبُ الجبروتِ والملكوتِ والكبرياءِ والعظمةِ...
هو عالِمُ السرِّ وأخفى، قيومُ السمواتِ والأرضِ، عالمُ الأسرارِ، مقيلُ العثار، مدبرُ الليلِ والنهارِ.
﴿ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾.
هو الأولُ فليس قبلَهُ شيءٌ، وهو الآخرُ فليس بعدَهُ شيءٌ وهو الظاهرُ فليسَ فوقَهُ شيءٌ، وهو الباطنُ فليسَ دونَهُ شيءٌ...
هو خيرُ المسؤولين، وأكرمُ المعطين، ورازقُ الناسَ أجمعين.
يعلمُ حوائجَ السائلين، وضمائرَ الصامتين، وأسرارَ صدورِ العالمين.
لا يزدادُ على كثرةِ السؤالِ إلا جودًا وكرمًا، ولا على كثرةِ الحوائجِ إلا تفضلًا وإحسانًا.
هو العليُّ الكبيرُ، الوليُّ الحميدُ، العزيزُ المجيدُ، المبدئُ المعيدُ، الفعالُ لما يريدُ، الحيُّ القيومُ، القويُّ المتينُ، العظيمُ الجليلُ، له الخلقُ والأمرُ، وبيدهِ النفعُ والضرُّ، وله الحكمُ والتقديرُ، والملكُ والتدبيرُ، ليسَ لهُ في صفاتِهِ شبيهٌ ولا نظيرٌ، ولا له في آلهيتهِ شريكٌ ولا ظهيرٌ، ولا له في سلطانهِ وليٌّ ولا نصيرٌ.
سبحانه من مليكٍ ما أمنَعَه، وجوادٍ ما أوسعَهُ، ورفيعٍ ما أرفَعَه، لا رادَّ لمشيئته، ولا مبدِّل لكلماتهِ، قولهُ حُكْمٌ، وقضاؤه حَتْمٌ، وأمْرُه رشدٌ، باهِرُ الآياتِ، فاطرُ السمواتِ، بارئُ السماتِ، مجيبُ الدعواتِ، مغيثُ اللهفاتِ، مقيلُ العثراتِ. أكبرُ من كلّ شيءٍ، وأعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأعزُّ من كلِّ شيءٍ، وأقدرُ من كل شيءٍ، وأعلمُ من كلِّ شيءٍ، وأحكمُ من كلِّ شيءٍ.
قالَ ابنُ القيِّمِ في صفةِ عظمةِ اللهِ ﻷ:
«يدبِّرُ أمرَ الممالكِ، ويأمرُ وينهى، ويخلقُ ويرزقُ، ويميتُ ويُحْيي، ويقضي وينفِّذُ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويقلِّبُ الليلَ والنهارَ، ويُدَاوِلُ الأيامَ بينَ الناسِ، ويُقَلِّبُ الدُّوَلَ، فيذهبُ بدولةٍ، ويأتي بأخرى.
والرسلُ من الملائكةِ عليهم الصلاةُ والسلامُ بين صاعدٍ إليه بالأمرِ، ونازلٍ من عندِهِ به، وأوامرُه ومراسيمُهُ متعاقبةٌ على تعاقبِ الأوقاتِ، نافذةٌ بحسبِ إرادتهِ ومشيئتهِ، فما شاءَ كانَ كما شاءَ في الوقتِ الذي يشاءُ على الوجهِ الذي يشاءُ، من غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ، ولا تَقَدُّمٍ ولا تأخُّرٍ، وأمرُهُ وسلطانُهُ نافِذٌ في السمواتِ والأرضِ وأقطارِها، وفي الأرضِ وما عليها وما تحتها، وفي البحارِ والجوِّ، وفي سائرِ أجزاءِ العالمِ وذرَّاتِهِ، يُقَلِّبها ويُصَرِّفها، ويُحدِثُ فيها ما يشاءُ، وقد أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا، وأحصى كلَّ شيءٍ عددًا، ووسعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وحكمةً، ووسعَ سَمْعُهُ الأصوات، فلا تختلفُ عليه ولا تشتبهُ عليه، بل يسمعُ ضجيجَها باختلافِ لغاتِها على تَفَنُّنِ حاجاتِها، فلا يَشغَلُهُ سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلِطُه كثرةُ المسائلِ، ولا يتبَرَّمُ بإلحاحِ المُلِحِّين ذوي الحاجات.
وأحاط بصرُه بجميعِ المرئياتِ، فيرى دبيبَ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصَّمَّاءِ في الليلةِ الظلماءِ، فالغيبُ عنده شهادةٌ، والسرُّ عنده علانيةٌ، يعلمُ السرَّ وأخفى من السرِّ؛ فالسرُّ ما انطوى عليه ضمير العبدِ، وخطرَ بقلبِهِ، ولم تتحركْ به شفتاه، وأخفى منه: ما لم يخطرْ بقلبِهِ بَعْدُ، فيَعلَمُ أنه سيخطرُ بقلبِهِ كذا وكذا في وقتِ كذا وكذا.
وله الخلقُ والأمرُ، وله الملكُ وله الحمدُ، وله الدنيا والآخرةُ، وله النعمةُ، وله الفضلُ، وله الثناءُ الحسنُ، وله الملكُ كلُّه، وله الحمد كلُّهُ، وبيدهِ الخيرُ كلُّهُ، وإليه يرجعُ الأمرُ كلُّهُ، شملت قدرتُهُ كلَّ شيءٍ، ووسعتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، ووسَعَت نعمتُهُ إلى كلِّ حيّ.
﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ [الرحمن:29]: يغفرُ ذنبًا، ويفرِّجُ همًّا، ويكشفُ كربًا، ويجبرُ كسيرًا، ويُغني فقيرًا، ويُعَلِّمُ جاهلًا، ويهدي ضالًّا، ويُرشِدُ حيرانًا، ويغيث لَهْفَانًا، ويَفُكُّ عانيًا، ويُشبع جائِعًا، ويَكْسُو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويُعافي مبتلى، ويقبل تائبًا، ويجزي محسنًا، وينصرُ مظلومًا، ويقصمُ جبَّارًا، ويقيل عثرَةً، ويسترُ عورةً، ويُؤَمِّن روعةً، ويرفعُ أقوامًا، ويضع آخرين.
لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يخفضُ القسطَ ويرفعُهُ، يُرفَع إليه عملُ الليلِ قبلَ عملِ النهارِ، وعملُ النهار قبلَ عملِ الليلِ، حجابُه النورُ، لو كشفَهُ لأحرقتْ سُبُحات وجههِ ما انتهى إليه بصرُه من خلقه.
يمينُه مَلأى، لا تَغِيضُها نفقة، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفقَ منذ خلقَ الخلقَ، فإنه لم يَغِضْ ما في يمينهِ.
قلوبُ العبادِ ونواصيهم بيدهِ، وأزمَّةُ الأمورِ معقودةٌ بقضائهِ وقدرِهِ، الأرضُ جميعًا قبضتُهُ يومَ القيامةِ، والسمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ، يقبضُ سمواتِهِ كلِّها بيدِهِ، والأرضَ باليدِ الأخرى، ثم يَهُزُّهنَّ، ثم يقولُ: أنا الملكُ، أنا الملكُ، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكنْ شيئًا، وأنا الذي أعيدُها كما بَدَأتُها.
لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفرَهُ، ولا حاجةٌ يُسأَلُها أن يعطيَها.
لو أن أهلَ سمواتِهِ، وأهلَ أرضِهِ، وأولَ خلقِهِ وآخرَهم، وإنسَهم وجنَّهم، كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ منهم، ما زاد ذلك في ملكهِ شيئًا، ولو أنَّ أولَ خلقهِ وآخرَهم، وإنسَّهم وجِنَّهم، كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منهم، ما نقصَ ذلك من ملكهِ شيئًا، ولو أن أهلَ سمواتِهِ، وأهل أرضِهِ، وإنسَهم وجِنَّهم، وحيَّهُم وميِّتهم، كانوا على أفجر قلبِ رجلٍ منهم، ما نقص ذلك من ملكهِ شيئًا، ولو أن أهلَ سمواته، وأهلَ أرضه، وإنسَهم وجنَّهم، وحيَّهُم وميِّتهم، ورطَبهم ويابِسهم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوه فأعطى كلًّا منهم مسألتَهُ، ما نقصَ ذلك مما عندَهُ مثقالَ ذرةٍ.
ولو أنَّ أشجارَ الأرضِ كلَّها ـ من حين وُجدتْ إلى أن تنقضيَ الدنيا ـ أقلامٌ، والبحرُ وارءه سبعةُ أبحرٍ تمدُّه من بعده مِدادٌ، فكُتِبَ بتلك الأقلامِ، وذلك المدادِ، لفنيت الأقلامُ ونفدَ المدادُ، ولم تنفدْ كلماتُ الخالقِ تباركَ وتعالى.
وكيفَ تَفْنَى كلماتُه جَلَّ جلالُهُ وهي لا بدايةَ لها ولا نهاية؟! والمخلوقُ له بدايةٌ ونهايةٌ، فهو أحقُّ بالفناءِ والنَّفادِ، وكيف يُفنِي المخلوقُ غيرَ المخلوق؟!
هو الأولُ الذي ليسَ قبلهُ شيءٌ، والآخرُ الذي ليسَ بعده شيءٌ، والظاهرُ الذي ليس فوقه شيءٌ، والباطنُ الذي ليس دونه شيءٌ.
تباركَ وتعالى، أحقُّ من ذُكِر، وأحقُّ من عُبد، وأحقُّ من حُمِد، وأولى من شُكِر، وأنصَرُ من ابتُغِي، وأرأفُ من مَلَك، وأجودُ من سُئِل، وأعفَى من قَدِر، وأكرم من قُصِد، وأعدل من انتَقَم.
حكمُه بعد علمهِ، وعفوهُ بعد قدرتهِ، ومغفرتُه عن عِزَّتهِ، ومَنْعُه عن حكمتهِ، وموالاتُه عن إحسانهِ ورحمتهِ.
ما لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ واجبٌ
كَلَّا ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
إن عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أو نُعِّمُوا
فَبِفَضْلِهِ، وهو الكريمُ الواسِعُ
هو الملكُ الذي لا شريكَ له، والفردُ فلا ندَّ له، والغنيُّ فلا ظهيرَ له، والصمدُ فلا ولدَ له، ولا صاحبةَ له، والعليُّ فلا شبيهَ له، ولا سَمِيَّ له، كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَهُ، وكلُّ مُلكٍ زائلٌ إلا ملكهُ، وكلُّ ظلٍّ قَالِصٌ إلا ظِلُّهُ، وكلُّ فضلٍ منقطعٌ إلا فضله.
لن يُطاعَ إلا بفضلهِ ورحمتهِ، ولن يُعصى إلا بعلمهِ وحكمتهِ، يُطاعُ فيَشكرُ، ويُعصَى فيتجاوزُ ويَغْفِرُ، كلُّ نقمةٍ منه عدلٌ، وكلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، أقربُ شهيدٍ، وأدنى حفيظٍ، حالَ دون النفوسِ، وأخذَ بالنواصي، ونسَخَ الآثار، وكتبَ الآجالَ، فالقلوبُ له مُفْضِيَةٌ، والسرُّ عنده علانيةٌ، والغيبُ عندَهُ شهادةٌ، عطاؤه كلامٌ، وعذابهُ كلامٌ، ﴿ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [يس:82]»( ).
أما بعد:
فإنَّ هذا الكتابَ يهدفُ إلى ترسيخِ أعظمِ قيمةٍ في حياةِ المسلمِ وهي العبوديةُ للهِ ﻷ: ﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾.
والعبوديةُ هي: الذلُّ والخضوعُ والانقيادُ للهِ ﻷ والافتقارُ التامُّ إليه سبحانهُ، وتحقيقُ أنه لا معبودَ بحقّ إلا اللهُ، وهذا لا يكونُ إلا بتعظيمِ اللهِ ـ المتضمنِ للخوفِ والرجاءِ والمحبةِ له تعالى وقد ذمَّ اللهُ ﻷ من لا يعظمُهُ فقال: ﴿ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾.
وقال: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﴾.
فشأنُ اللهِ أعظمُ من كلِّ شيءٍ، وعظمةُ اللهِ ﻷ فوقَ كلِّ تصدرٍ وتقديرٍ.
وقد جعلتُ هذا الكتابَ ـ تعظيمُ اللهِ ـ الأولَ في مكتبةِ اسعد مجتمعك ليترسخَ في الناسِ أنَّ تعظيمَ اللهِ ﻷ هو أعظمُ وسيلةٍ توصلُ إلى سعادةِ الفردِ والأسرةِ والمجتمعِ بل إلى سعادةِ البشريةِ كلِّها خصوصًا في زمنِ العولمةِ وحيث صار العالمُ قريةً واحدةً ضعفَ منه أثر الوسائلِ الخارجيةِ لحمايةِ ووقايةِ المجتمعِ من منعٍ ومراقبةٍ فصار لزامًا الاهتمامُ والتركيزُ التامُّ على تقويةِ تعظيمِ اللهِ في النفسِ بتقويةِ الوازعِ الدينيِّ ومراقبةِ اللهِ في السرِّ والعلنِ.
إنَّ المعظمَ للهِ ﻷ متوازنٌ من جميعِ الجوانبِ يحملُ همَّ الآخرةِ ولا ينسى نصيبهُ من الدنيا، معظِّمٌ لأمرِ اللهِ ونهيه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، محققٌ لتوحيدِ اللهِ على أكملِ وجهٍ سالمٌ من الشركِ بجميعِ صورِهِ، مؤدٍ واجباتِهِ الدينيةِ على أكملِ وجهٍ، من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وغيرِها من الفرائضِ والواجباتِ.
وهو كذلك من أعظمِ الناسِ تأديةً للحقوقِ وأعظمِها: حقُّ الوالدين، والأبناءِ والزوجةِ والأرحامِ والجيرانِ والأصدقاءِ والأطفالِ والفقيرِ وغيرِهم.
وكذلك فإنه يجتنبُ المحرماتِ التي نهى اللهُ عنها من مسكراتٍ ومخدراتٍ وانحرافاتٍ جنسيةٍ، واعتداءاتٍ على الأنفسِ والأموالِ بالسرقةِ والرشوةِ وغيرِها.
والمعظمُ للهِ ﻷ مجتنبٌ لهذه المحرماتِ عبوديةً للهِ ﻷ خوفًا ورجاءً ومحبة للهِ، ولذلك فإنه يجتنبُ المحرَّماتِ في سائرِ الأماكنِ داخل وطنه وخارجه، إذا رآه الناسُ وإذا لم يَرَوْه، لأنه لا يراقبُ إلا اللهَ ﻷ، فسلِمَ بذلك من التناقضِ والازدواجيةِ التي سيطرتْ على كثير من الناسِ.
وكذلك فإنَّ المعظمَ للهِ ﻷ لا يقتصرُ على تركِ المحرماتِ الظاهرةِ فقط، بل يهتمُّ بتطهيرِ قلبِهِ من المحرماتِ الباطنةِ كالكبر والغلِّ والحسدِ والبغضاءِ والرياءِ والسمعةِ والغرورِ وغيرِ ذلك.
وكذلك فإنه يهتمُّ بتحليةِ قلبهِ بالقيمِ والعباداتِ القلبيةِ كالصدقِ والإخلاصِ والمحبةِ والصبرِ والتوكلِ والإنابةِ وغيرِها.
والمعظمُ للهِ ﻷ همُّه إقامةُ العبوديةِ للهِ تعالى في نفسِهِ أولًا، وإسعادُ الآخرين بدخولِهم فيها،.
والمعظمُ للهِ ﻷ معظمٌ لجنابِ النبيِّ غ مدافعٌ عنه محبٌّ له، يشرفُ بالتأسي به والانضواءِ تحت لوائِهِ ولذلك فإنه يقتدي به في كلِّ الأمورِ، ويدعو إلى سنتهِ، ويبينُ فضائِلَهُ ومحاسِنَهُ وكمالَ أخلاقهِ وآدابِهِ غ، وهو لا يُقَدِّمُ على الكتابِ والسنةِ شيئًا من الآراءِ والأهواءِ والأقوالِ والعاداتِ.
كما أنه ملتزمٌ بمنهجِ الوسطيةِ في عباداتِهِ وتعاملاتِهِ كلِّها سالمٌ من التطرفِ والغلوِّ والإرهابِ والبدعِ والضلالات.
والمعظمُ للهِ هو الساعي الحقيقيُّ لإعمار الوطنِ وتنميتِهِ عبادةً للهِ في سائرِ المجالاتِ الاقتصاديةِ والإداريةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ والصحيةِ والتعليميةِ والأمنيةِ وفقَ الكتابِ والسنةِ، حيث يجعلُ من هذه الحياةِ مزرعةً للآخرةِ وممرًّا إليها.
ولذلك فإنه من أكثر الناسِ إتقانًا لعملِهِ وإحسانًا له. كما أنه لا يبخلُ بالخيرِ على الناسِ، بل يدلُّ الناسَ على كلِّ خيرٍ طلبًا لمرضاتِ اللهِ، ويغلقُ كلَّ بابٍ من أبوابِ الضررِ والفسادِ والإيذاءِ وذلك؛ لأنه من أصدقِ الناسِ نصحًا لمجتمعه ووطنه.
المعظمُ للهِ يتفاعلُ مع مجتمعِهِ بأمرِهِ بالمعروفِ ونهيهِ عن المنكرِ واصلٌ لرحمِهِ، راعٍ لجارِهِ، مساعدٌ للمحتاجِ، زائرٌ للمريضِ، مصلحٌ بين المتخاصمين، مشاركٌ في أفراحِ مجتمعِهِ.
والمعظمُ للهِ يعملُ بشموليةِ الإسلامِ الواسعةِ، ويرسخُ مبادِئَهُ في كلِّ الأمورِ، ويدخلُ في السِّلم كافة، ولا يختزلُ الدينَ في قضايا يحددُها لنفسِهِ، أو يحدُدها له غيرُهُ، وإنما يعظمُ ما عظمَهُ اللهُ ورسولُهُ، لا ما عظمتْهُ الأهواءُ والعاداتُ والتقاليدُ والمجتمعُ والبيئةُ، وما تفرضُهُ العولمةُ في واقعِنا المعاصرِ. وهو من خلال ذلك يقدمُ مصلحةَ الأمةِ والمجتمعِ على مصالِحِهِ الشخصيةِ الفرديةِ المحدودةِ.
إنَّ ترسيخَ قيمةِ تعظيمِ اللهِ ﻷ يعالجُ كثيرًا من مشاكلِ المجتمعِ الأمنيةِ والاقتصاديةِ والإداريةِ بأيسرِ السبلِ وأقلِّ التكاليفِ والأعباءِ على الدولةِ.
وكذلك فإنَّ ترسيخَ قيمةِ تعظيمِ اللهِ في النفوسِ تعالجُ كثيرًا من المشكلاتِ الاجتماعيةِ كعقوقِ الوالدينِ وقطيعةِ الرحمِ وظلمِ المرأةِ والعنفِ الأسريِّ وانتهاكِ الأعراضِ وغير ذلك من الاعتداءِ على الأنفسِ والأموالِ الخاصةِ والعامةِ وغيرِ ذلك من المشكلاتِ، حيث لا توجدُ مشكلةٌ إلا ومن أعظمِ أسبابِها ضعفُ تعظيمِ اللهِ ﻷ في النفوسِ، وقد رأينا أنَّ هذه القيمةَ لما ترسَّختْ في نفوسِ الجيلِ الأولِ في عصرِ النبوةِ وعصرِ الخلافةِ الراشدةِ ومنْ بعدَهم أنتجتْ أمةً ضربتْ أروعَ الأمثلةِ في الطهارةِ والاستقامةِ والأمانةِ وأداءِ الواجباتِ والابتعادِ عن المحرماتِ والوصولِ إلى أعظمِ مظاهرِ المدنيةِ والحضارةِ.
وهذا الكتابُ هو تأملاتٌ في تعظيمِ اللهِ ﻷ من خلالِ تدبرِ الآياتِ القرآنيةِ والأحاديثِ النبويةِ في اللهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ، وما سطَّرَهُ العلماءُ الربانيون في بيانِ عظمةِ اللهِ وغناه المطلقِ.
وكذلك ما كتبَهُ الشعراءُ في قصائدَ في تعظيمِ اللهِ ﻷ، وقد جمعتُ ما تيسَّرَ منها في هذا الكتابِ وهذا العملُ هو جزء من مشروع أسعد مجتمعك.
ويحدوني الأملُ أن نشتركَ جميعًا دعاةٌ وخطباءُ ومفكرون وكتابٌ وإعلاميون ورجالُ أعمالٍ في ترسيخِ قيمةِ تعظيمِ اللهِ بكلِّ الوسائلِ المتاحةِ المقروءةِ والمسموعةِ والمرئيةِ ومثلِ ذلك أن نطبِقَها في سائرِ مجالاتِ حياتِنا ليقتدوا بنا.
أسألُ اللهَ أنْ يباركَ في الجهودِ وأنْ يسعدَ الجميعَ دنيا وآخرة.
د. أحمد بن عثمان المزيد
أستاذ الدراسات الإسلامية المشارك
كلية التربية -جامعة الملك سعود
aalmazyad@ksu.edu.sa عبادةُ التعظيمِ
إن تعظيمَ اللهِ ﻷ من أعظمِ العباداتِ التي غفلَ عنها كثيرٌ من الناسِ، فساءتْ أحوالُهم، وانقلبتْ موازينُهم، وتلاعبتْ بهم الشياطينُ والأهواءُ والأنفسُ الأمارةُ بالسوءِ.
فالتوحيدُ الذي هو رأسُ الأمرِ هو الأصلُ في تعظيمِ اللهِ ﻷ فاللهُ ﻷ أعظمُ من أن يُعْبَدَ معَهُ غيرُه قال تعالى في الحديثِ القُدْسِيِّ: «أنا أغنى الشركاءِ عن الشِّركِ، من عملَ عملًا أشركَ فيه معي غَيْرِي تركتُه وشِرْكَهُ» [مسلم].
ولمَّا عبدَ قومُ نوحٍ الأصنامَ أنكرَ عليهم نوحٌ عليه السلام وقال لهم: ﴿ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ [نوح:13]. قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ: أي ما لكم لا ترجونَ للهِ عظمةً، وقال سعيدٌ بنُ جبيرٍ: ما لكم لا تُعَظِّمُونَ اللهَ حقَّ عظمتِه، وقال الكلبيُّ: لا تخافونَ للهِ عظمةً( ).
وهدهدُ سليمانَ عليه السلام لمّا كان معظمًا للهِ ﻷ استنكرَ أن يعبدَ قومٌ الشمسَ من دونِ الله تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾ [النمل:23-26].
حتى الجماداتِ فإنها تستبشعُ افتراءَ الكذبِ على اللهِ وادعاءَ أن له ولدًا تعظيمًا لله ﻷ وإجلالًا له: ﴿ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ [مريم:88-92].
قال الضحاكُ بنُ مزاحمٍ في قولِه تعالى: ﴿ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ﴾ أي: يَتَشَقَّقْنَ من عظمةِ اللهِ ﻷ( ).
فعظمةُ اللهِ تعالى متقرِّرَةٌ لدى هذه الأجرامِ العظيمةِ، ولذلك فإنها لا تطيقُ هولَ تلك الكلمةِ الشنيعةِ وهي نسبةُ الولدِ إلى اللهِ تعالى، ولولا حلمُ اللهِ تعالى لخرَّ العالمُ وتبددْت قوائِمُه غضبًا على من تفوَّه بها.
قال محمدُ بنُ كعبٍ: كادَ أعداءُ اللهِ أن يُقيموا علينا الساعةَ.
وقدْ ذكرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه الله علاقةَ التعظيمِ بالوحدانيةِ فقالَ: «فمن اعتقدَ الوحدانيةَ في الألوهيةِ للهِ سبحانه وتعالى والرسالةَ لعبدِه ورسولِه، ثم لم يُتْبِعْ هذا الاعتقادَ موجَبَهُ من الإجلالِ والإكرامِ، الذي هو حالٌ في القلبِ يظهرُ أثرُه على الجوارحِ، بل قارنَه الاستخفافُ والتسفيهُ والازدراءُ بالقولِ أو بالفعلِ كانَ وجودُ ذلك الاعتقادِ كعدمِهِ، وكانَ ذلك موجِبًا لفسادِ ذلك الاعتقادِ ومزيلًا لما فيه من المنفعةِ والصلاحِ، إذ الاعتقاداتُ الإيمانيةُ تُزكِّي النفوسَ وتصلِحُها، فمتى لم توجبْ زكاةَ النفسِ ولا صلاحَها، فما ذاك إلا لأنها لم ترسَخْ في القلبِ»( ).
ومن دلائلِ تعظيمِ اللهِ ﻷ عبوديةُ الكائناتِ لله تعالى وسجودُها لعظمتِه سبحانه كما قال تعالى: ﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [الحج:18].
وتعظيمُ اللهِ ﻷ هو الذي يعطي العبادةَ روحَها وجلالَها، وهو الذي يجعلُها عبادةً مقبولةً خالصةً صحيحةً تامَّةَ الشروطِ والأركانِ، أمَّا عبادةٌ بلا تعظيمٍ فإنها كالجسدِ بلا روحٍ ولذلك قال ابنُ القيمِ رحمه الله: «وروحُ العبادةِ هو الإجلالُ والمحبةُ، فإذا تخلَّى أحدُهما عن الآخرِ فسدَتْ، فإذا اقترنَ بهذين الثناءُ على المحبوبِ المعظَّمِ فذلك حقيقةُ الحمدِ( ).
والنبيُّ غ لما سألَهُ جبريلُ عن الإحسانِ قال: «أن تعبدَ اللهَ كأنَّك تراهُ، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك»( )، وهذه المراقبةُ في العبادةِ هي طريقُ التعظيمِ والإجلالِ للهِ تعالى قال ابنُ رجبٍ: «فقولُه غ في تفسيرِ الإحسانِ: «أن تعبدَ اللهَ كأنك تراهُ» إلخ، يشيرُ إلى أنَّ العبدَ يعبدُ اللهَ على هذه الصفةِ، وهي استحضارُ قربِهِ، وأنه بين يديْهِ كأنَّه يراه، وذلك يوجبُ الخشيةَ والخوفَ والهيبةَ والتعظيمَ»( ).
* * *
تعظيم الله في أمهات العبادة
والنبيُّ غ أرشدَ إلى تعظيمِ اللهِ ﻷ في أمَّهاتِ العبادةِ فالصلاةُ وهي أعظمُ الشعائرِ التعبديةِ بعد الشهادتينِ كلُّها قائمةٌ على التعظيمِ للهِ ﻷ، وكان غ يستفتحُ الصلاةَ بعباراتِ التعظيمِ والتمجيدِ والإجلالِ للهِ ﻷ. ففي السننِ عن عائشةَ وأبي سعيدٍ أن النبيَّ غ كانَ إذا استفتحَ الصلاةَ قال: «سبحانك اللهمَّ وبحمدِك وتبارَكَ اسمُكَ، وتعالى جدُّك ولا إله غيرُك»( ).
وفي صحيح مسلمٍ عن عليٍّ بنِ أبي طالبٍ ت قالَ: كان رسولُ اللهِ غ إذا قامَ إلى الصلاةِ قال: «وجَّهْتُ وجهِيَ للذي فطرَ السمواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا من المشركينَ إنَّ صَلاتي ونسُكي ومحيايَ ومماتي للهِ ربِّ العالمينَ، لا شريكَ له وبذلكَ أمرتُ وأنا من المسلمينَ، اللَّهُمَّ أنت الملِكُ لا إله إلَّا أنت، أنت ربي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي فاغفِرْ لي ذنوبِي جميعًا إنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلَّا أنتَ، واهدني لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسَنِهَا إلَّا أنتَ، واصرِفْ عني سيئَهَا لا يصرفُ عني سيِّئَهَا إلا أنتَ، لبيك وسعدَيْك، والخيرُ كلُّه في يديْك، والشرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك تباركْتَ وتعالَيْتَ، أستغفِرُك وأتوبُ إليك»( ).
وفي الصحيحين عن ابن عباس ب قال: كان رسول الله غ إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرضِ ومَن فيهن ولكَ الحمدُ، أنت قَيَّامُ السمواتِ والأرضِ ومَنْ فيهن، ولكَ الحمدُ، أنت ربُّ السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحقُّ، ووَعدُك الحقُّ، وقولُك الحقُّ، ولقاؤُك حَقٌّ، والجنةُ حَقٌّ، والنارُ حَقٌّ، والنبيون حَقٌّ، ومحمد غ حَقٌّ، والسَّاعة حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أسْلمتُ، وبك آمنتُ، وعليكَ توكلتُ، وإليكَ أنبتُ، وبكَ خاصمتُ، وإليكَ حاكمتُ، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخرّتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت إلهي لا إله إلَّا أنت»( ).
فهو غ أعظمُ الناسِ تعظيمًا لربِّه تعالى، وأحسنُهم ثناءً عليه وافتقارًا إليه ورغبةً في فضْلِه ورهبةً من عذابِه. وفاتحةُ الكتابِ كذلكَ من أعظمِ ما عُظِّمَ به اللهُ تبارك وتعالى، ولذلكَ جاءَ في الحديثِ القُدْسِيِّ: «قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ قال الله تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: ﴿ﭛ ﭜ﴾ قال الله تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿ﭞ ﭟ ﭠ﴾ قال: مَجَّدني عبدي ـ وقال مرةً فَوَّضَ إليَّ عبدي ـ فإذا قال: ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ قال: هذا بيني وبينَ عبدي ولعبدِي ما سأل، فإذا قال: ﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾ قال: هذا لعبدِي ولعبدِي ما سألَ»( ).
والركوعُ كذلكَ من مواضِعِ تعظيمِ اللهِ ﻷ في الصلاةِ لقولِه غ: «أما الركوعُ فعظِّمُوا فيه الربَّ»( ). وفي السننِ عن حذيفةَ ت أنه سَمِعَ رسولَ اللهِ غ يقولُ إذا ركعَ: «سبحانَ ربي العظيمِ» ثلاث مراتٍ، وإذا سجَدَ قال: «سبحانَ ربي الأعلى» ثلاثَ مراتٍ( ).
وهذا يدلُّ على أن التعظيمَ يكونُ في الركوعِ والسجودِ إلَّا أنَّه في الركوعِ يكونُ الثناءُ والتعظيمُ أكثرُ أما السجودُ فيكونُ فيه التسبيحُ الذي هو تعظيمٌ للهِ ﻷ ويكونُ فيه الدعاءُ والمسألةُ قال غ: «أما الركوعُ فعظِّمُوا فيه الربَّ وأما السجودُ فاجتهدُوا في الدعاءِ فَقَمِنٌ أنْ يُستجَابَ لكم»( ).
وعن عائشة ل قالت: كان رسولُ الله غ يُكثِرُ أن يَقُولَ في ركوعِه وسجودِه: «سبحانَكَ اللهمَّ ربَّنا وبحمدِكَ اللهمَّ اغفِرْ لي»( ). وعنها ل قالت: كان رسولُ الله غ يقولُ في ركوعِه وسجودِه: «سُبوحٌ قُدوسٌ، ربُّ الملائكةِ والروحِ»( ).
وكذلك جعلَ النبيُّ غ ذِكْرَ ما بعد الرفعِ من الركوعِ منصبًّا على تعظيمِ اللهِ جلَّ وعلا، فعن أبي سعيدٍ ت قال: كان رسولُ اللهِ غ إذا رفَعَ رأسَه من الركوعِ قال: «اللهم ربَّنا لك الحمدُ ملْءَ السمواتِ ومِلْءَ الأرضِ، ومِلْءَ ما بينهما، وملءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ، أهلَ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ وكلُّنَا لك عبدٌ، اللهمَّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منك الجدُّ»( ).
أما الحجُّ فإنه كذلك من العباداتِ التي يَتَجَلَّى فيها تعظيمُ الربِّ جلَّ جلالُه في كلِّ منسكٍ من مناسكِهِ فإن هناك كثيرًا من أفعالِ الحجِّ غيرُ معقولةِ المعنى، غير أنَّ المعنى الذي يجمَعُها جميعًا هو الطاعةُ المطلقةُ والتعظيمُ المطلقُ للهِ تعالى، فالطوافُ يكونُ حولَ البيتِ الذي هو من الحجارةِ، والحجرُ الأسودُ يُقَبَّلُ مع كونِه حجرًا، ورَمْيُ الجِمارِ إنما هو حَجَرٌ يُرمى به حَجَرٌ، فما الذي جعلَ هذا الحجَرَ يُرْمَى وهذا الحَجَرَ يُقَبَّلُ وهذا الحَجَرُ يُطافُ حولَه سِوَى العبوديةِ المحضةِ والتعظيمِ الخالصِ للهِ تعالى!
وفي التلبيةِ التي هي شعارُ الحجِّ أعظمُ عباراتِ الثناءِ والتعظيمِ للهِ ﻷ: «لبيك اللهُمَّ لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملكُ، لا شريكَ لك».
ذكر ابنُ القيمِ رَحِمَهُ اللهُ في معنى التلبيةِ كلامًا جميلًا نذكرُ منهُ ما يدلُّ على تعظيمِ الربِّ تعالى حيثُ ذكرَ من مَعَانيها: إجابةً لك بعدَ إجابةٍ، أو انقيادًا لك بعد انقيادٍ، أي انقدتُ لك، وَسَعَتْ نفسِي خاضعةً ذليلةً، أو حبًّا لك بعد حبٍّ، أو أخلَصْتُ لُبِّي وقَلْبِي لك، فهي شعارُ التوحيدِ ملةِ إبراهيمَ الذي هو روحُ الحجِّ ومقصدُه، بلْ روحُ العباداتِ كلِّها والمقصودُ منها، ولهذا كانت التلبيةُ مفتاحَ هذه العبادةِ التي يُدْخَلُ فيها بها.
وكذلك فإنها مشتملةٌ على الاعترافِ للهِ بالنعمةِ كلِّها ولهذا عَرَّفَها باللامِ المفيدةِ للاستغراقِ أي النعمُ كلُّها لك وأنت مُوليها والمنعمُ بها.
ومشتملةٌ كذلك على الاعترافِ بأن المُلْكَ كلَّه للهِ وحده، فلا مُلْكَ على الحقيقةِ لغيرِه.
واللهُ سبحانه يفرَّقُ في صفاتِه بين الملكِ والحمدِ، وسَوَّغَ هذا المعنى أنَّ اقترانَ أحدُهُما بالآخرِ من أعظمِ الكمالِ والملكِ. والملكُ وحدَه كمالٌ، والحمدُ كمالٌ، واقترانُ أحدِهما بالآخرِ كمالٌ، فإذا اجْتمعَ الملكُ المتضمِّنُ للقدرةِ، مع النعمةِ المتضمِّنةِ لغايةِ النفعِ والإحسانِ والرحمةِ، مع الحمدِ المتضمِّنِ لعامةِ الجلالِ والإكرامِ ا لداعِي إلى محبَّتِه، كان في ذلك من العظمةِ والكمالِ والجلالِ ما هو أولى به وهو أهلُه»( ).
* * *
حقيقةُ تعظيمِ اللهِ تعالى
ذكرَ الهرويُّ رحمهُ الله في (منازلِ السائرينَ) حقيقةَ تعظيمِ اللهِ تعالى فقال: «تعظيمُ الحقِّ سبحانه هو ألا يجعلَ دونَه سببًا، ولا يَرَى عليه حقًّا، أو ينازَع له اختيارًا».
وهذا من دُرَر كلامِه رحمه الله، وقد شَرَحه الإمامُ ابنُ القيمِ فقال: «هذه الدرجةُ تتضمنُ تعظيمَ الحاكمِ سبحانه صاحبَ الخلقِ والأمرِ... وذكر من تعظيمِه ثلاثةَ أشياءَ:
إحداها: أن لا تجعلَ دونَه سببًا، أي لا تجعَلْ للوصْلةِ إليه سببًا غيرَه، بل هو الذي يوصِلُ عبدَه إليه، فلا يوصِلُ إلى اللهِ إلا اللهُ، ولا يقرِّبُ إليه سِوَاه، ولا يُدِني إليه غيرُه، ولا يُتَوصلُ إلى رضاهُ إلا به، فما دلَّ على اللهِ إلا اللهُ، ولا هَدَى إليه سِواه، ولا أَدْنَى إليه غيرُه، فإنه سبحانَه هو الذي جعلَ السببَ سببًا، فالسببُ وسببيتُه وإيصالُه كلُّه خلقُه وفعلُه.
الثاني: أن لا يَرى عليه حقًّا، أي لا تَرى لأحدٍ من الخلقِ لا لك ولا لغيرِك حقًّا على اللهِ، بل الحقُّ للهِ على خلقِه وفي أثرٍ إسرائيلي: أن داودَ عليه السلامُ قال: يا ربّ بحقِّ آبائي عليك. فأوْحَى اللهُ إليه: يا داودُ! أيُّ حقٍّ لآبائِك عليَّ؟ ألستُ أنا الذي هديتُهم ومننْتُ عليهم واصطفيتُهم وليَ الحقُّ عليهم.
وأما حقوقُ العبيدِ على اللهِ تعالى؛ من إثابةٍ لمطيعِهم، وتوبتِه على تائِبِهم، وإجابَتِه لسائِلِهم، فتلك حقوقٌ أحقَّها اللهُ سبحانه على نفسِه بحكمِ وعدِهِ وإحسانِه، لا أنَّها حقوقٌ أحقُّوها هم عليه، فالحقُّ في الحقيقةِ للهِ على عبدِه. وحقُّ العبدِ عليه هو ما اقتَضَاه جودُه وبرُّه وإحسانُه إليه بمحضِ جودِه وكرمِه، هذا قولُ أهلِ التوفيقِ والبصائرِ.
الثالث: وأما قولُه: ولا ينازِعُ لهُ اختيارًا، أي إذا رأيتَ اللهَ ﻷ قد اختارَ لك، أو لغيرِك شيئًا؛ إما بأمرِه ودينِه، وإما بقضائِهِ وقدرِه، فلا تنازع اختيارَه، بل ارضَ باختيارِ ما اختارَه لك فإن ذلك من تعظيمِه سبحانه. ولا يَرِدُ عليه قَدَرُه عليه من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قَدَّرَها لكنه لم يختَرْها له، فمنازَعتُها غيرُ اختيارِه من عبدِه، وذلك من تمامِ تعظيمِ العبدِ له سبحانه»( ).
والمؤمنُ ـ من تعظيمِ ربّه تبارك وتعالى ـ يرى الخيرَ في كلِّ ما يأتي به اللهُ ـ، ويعلَم أنَّ الله تعالى يريدُ به الخيرَ واليسرَ والفلاحَ الذي قد يأتي في ثَوبِ البلاءِ والشدةِ والضيقِ، ولذلك قال النبيُّ غ: «عجبًا لأمرِ المؤمنِ إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابتْه سراءُ شَكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَاءُ صَبَرَ فكانَ خيرًا له»( ).
إن غيرَ المؤمنِ لا يصيبُه من هذا الخيرِ شيءٌ لأنه لا يعظمُ اللهَ تعالى ولا يرضَى بقضائِه، ويرى لنفسِه الحقَّ على اللهِ تعالى، كما قالَ صاحبُ الجنتينِ: ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [الكهف:36].
أما المؤمنُ المعظِّمُ لربِّه ـ تبارك وتعالى ـ فإنَّه يرضى بما قدَّرَهُ الله عليه، ويصبِرُ على البلاءِ، ويسألُ ربَّه أن يرفَعَ عنه هذا البلاءَ وأن يثبِّتَه على الحقِّ، كما أنه يعودُ باللائمةِ في نزولِ هذا البلاءِ على نفسِه، ويعلمُ أنه مستحقٌّ له وأن اللهَ ﻷ لم يظلمْهُ وإنما ابتلاهُ بذنوبِه تنبيهًا وإيقاظًا حتى يتدارَكَ أمرَهُ، ويصلحَ شأنَهُ، كلُّ ذلك لأنه لا يرى لنفسِه حقًّا على الله تعالى كما قال الناظمُ وأحسن:
ما للعبادِ عليه حقٌّ واجبُ
كلَّا ولا سعيٌ لديه ضائعُ
إن عُذِّبُوا فبعدلِه أو نُعِّموا
فبفَضْلِهِ وهو الكريمُ الواسعُ
* * *
من معاني اسم الله (العظيم)
من أسمائِه تعالى: (العظيم) قال تعالى: ﴿ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾ [البقرة:255]، وقال: ﴿ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ﴾ [الحاقة:33].
قالَ الزجاجُ: العظيمُ: المعظَّمُ في صفةِ اللهِ تعالى يفيدُ عِظَمَ الشأنِ والسلطانِ، وليس المرادُ به وصفَه بعظمِ الأجزاءِ لأن ذلك من صفاتِ المخلوقينَ تعالى الله عن ذلك علوًّا( ).
قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله تعالى: «العظيمُ الجامعُ لجميعِ صفاتِ العظمةِ والكبرياءِ، والمجدِ والبهاءِ الذي تحبُّه القلوبُ، وتعظِّمُه الأرواحُ، ويعرفُ العارفونَ أنَّ عظمةَ كلِّ شيءٍ، وإن جَلّتْ في الصفةِ، فإنها مُضْمَحِلةٌ في جانبِ عظمةِ العليِّ العظيمِ.
واللهُ تعالى عظيمٌ له كلُّ وصفٍ ومعنىً يوجبُ التعظيمَ، فلا يقدرُ مخلوقٌ أنْ يُثْنِيَ عليه كما ينبغي له، ولا يُحصِي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسِه، وفوقَ ما يُثْنِي عليه عبادُه.
واعلمْ أن مَعَانِي التعظيمِ الثابتةِ للهِ وحدَه نوعانِ:
أحدُهما: أنه موصوفٌ بكلِّ صفةِ كمالٍ، وله من ذلك الكمالِ أكملُه، وأعظمُه وأوسعُه، فلهُ العلمُ المحيطُ، والقدرةُ النافذةُ والكبرياءُ والعظمةُ، ومن عظمتِه أنَّ السمواتِ والأرضَ في كفِّ الرحمنِ أصغرُ من الخردلَةِ كما قال ابنُ عباسٍ وغيرُه، وقال تعالى: ﴿ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ [الزمر:67]، وقال: ﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ [فاطر:41]، وقال تعالى وهو العليُّ العظيمُ: ﴿ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ الآية [الشورى:5].
وفي الصحيحِ عنه غ: «إنَّ اللهَ يقولُ: الكبرياءُ ردائِي والعظمةُ إزاري، فمن نازَعَني واحدًا منهما عذبتُه»( )، فللهِ تعالى الكبرياءُ والعظمةُ، والوصفانِ اللذانِ لا يُقْدَرُ قدرُهما ولا يُبْلَغُ كُنْهَهُمَا.
النوعُ الثاني من معاني عظمتِه تعالى: أنَّه لا يستحقُّ أحدٌ من الخلقِ أن يعظِّمَ كما يعظَّمَ اللهُ؛ فيستحقُّ ـ جلَّ جلالُه ـ من عبادِهِ أن يعظِّمُوه بقلوبِهم، وألسنتِهم، وجوارحِهم؛ وذلك ببذلِ الجهدِ في معرفتِه، ومحبتِه، والذلِّ له، والانكسارِ له، والخضوعِ لكبريائِه، والخوفِ منه، وإعمالِ اللسانِ بالثناءِ عليه، وقيامِ الجوارحِ بشكرِه وعبوديتِه. ومن تعظيمِه: أن يُتَّقى حقَّ تقاتِه؛ فيطاعَ فلا يُعْصَى، ويذكرَ فلا يُنسى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَرُ.
ومن تعظيمِه: تعظيمُ ما حرَّمَهُ وشرعَهُ من زمانٍ ومكانٍ وأعمالٍ: ﴿ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ [الحج:32]، ﴿ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ [الحج:30].
ومن تعظيمِه: أن لا يُعترضُ على شيءٍ مما خَلَقَهُ أو شَرَعَهُ»( ).
وعظمةُ اللهِ سبحانَه وتعالى لا تكيَّفُ ولا تحدُّ، ولا تمثَّلُ بشيءٍ، ويجبُ على العبادِ أن يعلَمُوا أنه سبحانَهُ عظيمٌ كمَا وصفَ نفسَهُ بذلك، ووصفَهُ به رسولُه غ بلا كيفيةٍ ولا تحديدٍ، وقدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ غ أنه قالَ: «تفكرُوا في آلاءِ اللهِ ولا تَفَكَّرُوا في اللهِ»، وفي لفظ: «تَفكَّروا في خلقِ اللهِ ولا تَفَكَّرُوا في اللهِ».
* * *