بعيدا عن صيحات المأزومين، وتهديدات أصحاب التوكيلات الدينية، ودهاء العسكر، وحيرة أصحاب المصالح من حملة الأقلام، ومأزق المفكرين الفضائيين وورطة الباحثين عن الرزق من تجار الكلمة بالتجزئة أو بالجملة، سعدت بالتواجد مع بعض العمال والفلاحين والمثقفين الشعبيين من أنصار حمدين صباحى، هؤلاء الذين اخشوشنت أيديهم من حمل الفأس بالغيطان واسمرت وجوههم من قيظ صيف الترحيلة، وتفتح وعيهم الفطرى مع ندى الفجرية وهم يسعون للرزق، وتكحلت نساؤهم من طين الأرض «العفية»، هؤلاء هم أحفاد من حفروا القناة بأظافرهم وعبروا القناة بعد ذلك بأرواحهم، وأسقطوا جدار الصمت بقدرتهم على حب الحياة والتقاط رموز الوطن من حشا الفقر، هؤلاء الذين لا تطرح أشجارهم سوى الحرية.
قال لى عم إبراهيم الفلاح السبعينى وهو يشير إلى شجرة فاكهة: الشجرة دى بتاخذ خمس سنين عشان تطرح، وفية طرحتين بنسميهم الرجوع يعنى طرح كداب، مالوش طعم، إحنا إدينا أصواتنا لحمدين وبإذن الله هايطرحوا بعد سنين، أما السلم والميزان فدول رجوع ما لوش طعم.
يتدخل فى الحديث محمود الشاب الجامعى قائلا: ربنا يستر الشاطر بيهدد، ومرسى بيقول مش هايسكت لو فاز شفيق.
ردت أم حسن بائعة الخضار: يا ابنى ده لو شاطر مكنش كل ده حصل، الجماعة السنية دول زى نار الهيش تشوفها من آخر البلد لكن نارها متسويش فنجال قهوة، إخص عليهم مش دول اللى سكتوا لما العسكر بهدلوا الولايا فى الشوارع.
جاء مصطفى سائق التوك توك ركن واشترك فى الحديث قائلا: أنصار شفيق بيدفعوا كويس عشان ننقل الناس للتصويت، رد عليه مختار الشهير بالثورى: يعنى عملتهم يا درش.. رد مصطفى ضاحكا أقاطع الانتخابات أيوه لكن أقاطع رزقى مش معقول.. صاحت فيهم أم حسن كل واحد يروح يشوف لقمة عيشه، قالتها ورفعت مشنة الخضار متجهة نحو المدينة، ركضت خلفها بحثا عن الحكمة وسألتها: أم حسن لماذا قاطعتى الانتخابات؟ اعتدلت مثل شجرة الجميز وهى تواجه الريح، وفاجأتنى بإجابة قاطعة: لأن حمدين يا حبة عينى قاطعها.
إجابة فاض منها فى وجدانى نهر دموعى، وطاف بمخيلتى ذكريات نضال الشعب المصرى إبان ثورة 1919 حينما دعا سعد زغلول إلى مقاطعة لجنة ملنر، وكيف ذهب ملنر إلى أحد الفلاحين وحاول الحديث معه فرفض الفلاح، فسأل ملنر الفلاح: الساعة كام؟ فرد الفلاح اسأل سعد باشا.
قطعت أم حسن جدار ذكرياتى متسائلة يا أستاذ أنت بتشوف حمدين؟
أجبتها: نعم، فقالت لى: قوله يعمل لنا جماعة غير جماعة السنية اللى بتاجر بالدين وعمرها ما حست بينا.. وصلنا إلى المكان الذى تبيع فيه، حاولت أن أساعدها ولكنها ابتسمت قائلة: كل واحد عارف شغله، ورفعت وجهها إلى السماء داعية: ربنا ينصرك يا حمدين يا ابنى ويكفيك شر ولاد الحرام.
تركت أم حسن لكن الوطن الذى يطل من عينيها لم يفارقنى وأنا أنظر لبوستر حمدين الذى كانت تغطى به مشنة الخضار.