نفحة عبير
من سيرة البشير النذير
د. يحي إبراهيم اليحي
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن استن بسنته واهتدى بهديه واقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصورة العملية التطبيقية لهذا الدين، وجميع الطرق الموصلة إلى الله تعالى ثم إلى الجنة موصودة ومغلقة إلا طريقه صلى الله عليه وسلم، ويمتنع أن تعرف دين الإسلام ويصح لك إسلامك بدون معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه ومنهجه وسنته؟.
لقد سالم وحارب، وأقام وسافر، وباع واشترى، وأخذ وأعطى، وما عاش صلى الله عليه وسلم وحده، ولا غاب عن الناس يوماً واحداً، ولا سافر وحده.
وقد لاقى صنوف الأذى، وقاسى أشد أنواع الظلم، وكانت العاقبة والنصر له.
بعث على فترة من الرسل، وضلال من البشر، وانحراف في الفطر، وواجه ركاماً هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله، والإغراق في الوثنية. فاستطاع بعون الله أن يخرجهم من الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة، فأحبوه وفَدَوْهُ بأنفسهم وأهليهم وأموالهم، واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة، وجعلوه نبراساً لهم يستضيئون بنوره، ويهتدون بهديه فأصبحوا أئمة الهدى وقادة البشرية.
هل تطلبون من المختار معجزة *** يكفيه شعب من الأجداث أحياه
من وحد العرب حتى كان وا *** ترهم إذا رأى ولد الموتور أخاه
وما أصيب المسلمون إلا بسبب الإخلال بجانب الاقتداء به، والأخذ بهديه، واتباع سنته، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
حتى اكتفى بعض المسلمين من سيرته بقراءتها في المنتديات والاحتفالات، ولا يتجاوز ذلك إلى موضع الاهتداء والتطبيق....
وبعضهم بقراءتها للبركة، أو للاطلاع على أحداثها ووقائعها، أو حفظ غزواته وأيامه وبعوثه وسراياه.
وهذا راجع إما لجهل بأصل مبدأ الاتباع والاهتداء والاقتداء، وعدم الإدراك بأن هذا من لوازم المحبة له صلى الله عليه وسلم، وإما لعدم إدراك مواضع الاقتداء من سيرته صلى الله عليه وسلم؛ نظراً لضعف الملكة في الاستنباط، أو لقلة العلم والاطلاع على كتب أهل العلم.
إن سيرته صلى الله عليه وسلم رسمت المنهج الصحيح الآمن في دعوة الناس، وهداية البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة. وما فشلت كثير من المناهج الدعوية المعاصرة في إصلاح البشر إلاّ بسبب الإخلال بهديه والتقصير في معرفة سنته، ونقص في دراسة منهجه صلى الله عليه وسلم في هداية البشر وإصلاحهم.
لذا رأيت كتابة هذه التعليقة من سيرته صلى الله عليه وسلم كنموذج مقترح لكتابة السيرة النبوية؛ لكي تكون لبنة في بناء المنهج الدعوي القائم على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله تعالى أن ينفع بها كاتبها وقارئها ومستمعها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآمل من كل أخ عنده اقتراح أو ملاحظة أو تنبيه أن يكتب لي بملاحظاته وأكون له من الشاكرين
http://www.taiba.org/ إبراهيم عليه السلام وبناء الكعبة
وبعد: أخي الكريم إنه حري بك وأنت تتجه كل يوم في صلاتك إلى هذا البيت المحرم أن تتعرف على تاريخه، ولا أظنك إلا من النهمين الحريصين على تعلم ذلك؛ وبخاصة أن هذا البيت خير مكان على الأرض منه شع نور الإسلام، وبعث فيه خير الأنام سيدنا وقائدنا ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
إن قصة بناء الكعبة قصة عظيمة، تتضح فيها عظمته وأهميته، فقد احتاج أبو الأنبياء وخليل الرحمن أن يضع أسرته هناك حيث لا أنيس ولا جليس من أجل هذا البيت.
قال البخاري في صحيحه: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (( جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بهاجر وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَتْ إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَبِّ {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} حَتَّى بَلَغَ {يَشْكُرُونَ}.
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإنسانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا.
فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ صَهٍ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ - لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا )).
قَالَ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ.
وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ.
فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا قَالَ وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ فَقَالُوا أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ فَقَالَتْ نَعَمْ وَلَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ قَالُوا نَعَمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الأنْسَ فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ.
وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ فَشَكَتْ إِلَيْهِ قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ قَالَ فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ قَالَتْ نَعَمْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ قَالَ ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى.
فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا قَالَ كَيْفَ أَنْتُمْ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ مَا طَعَامُكُمْ قَالَتِ اللَّحْمُ قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ قَالَتِ الْمَاءُ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ )).
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ قَالَ فَهُمَا لا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلا لَمْ يُوَافِقَاهُ قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ قَالَ فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ قَالَتْ نَعَمْ هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ قَالَ ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ.
ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ ثُمَّ قَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ قَالَ فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ قَالَ وَتُعِينُنِي قَالَ وَأُعِينُكَ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا قَالَ فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولانِ {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قَالَ فَجَعَلا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولانِ {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
أخي الحبيب: إنّ في هذه القصة فوائد عظيمة منها:
1- التسليم المطلق لله تعالى، فإبراهيم يدع امرأته وطفلها في أرض موحشة غريبة قفراء لا ماء فيها ولا شجر استجابةً وطاعةً لله تعالى، مع ما عرف عنه من الشفقة والرحمة، ولكن التسليم لأمر الله تعالى فوق كل شئ.
2- امتحان الأنبياء بأولادهم وهل يقدمونهم فداءً لطاعة ربهم أم لا.
3- أن البلاء والمحن التي تنـزل بالمسلم لا تعني أن الله تعالى تخلى عنه، أو أراد تعذيبه بل إنه ربه أرحم به من نفسه، ولكن النفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتصلح من نفس المبتلى وقلبه، ويستعلي به على الشح بالنفس والمال، ويخرج أفضل ما عنده من مزايا وطاقات، ولهذا كان أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وهذا خليل الله وأبو الأنبياء عليهم السلام تتوالى عليه المحن والفتن فيخرج منها نقياً تقياً، صابراً محتسباً، مسلماً أمره لله جل وعلا، حتى أصبح أمةً بنفسه{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}.
4- تربية إبراهيم أسرته على الطاعة والتسليم الكامل لأمر الله عز وجل.
5- قوة إيمان هاجر وعظم توكلها وثقتها بربها عز وجل "إذن لا يضيعنا".
6- التوجه إلى الله وحده بالدعاء والتضرع في كل حال، فإبراهيم عليه السلام لما نفذ أمر ربه بوضع أسرته في ذلك الموقع الموحش، توجه إلى الله بالدعاء لهم بالأنس والرزق والبركة، ومن توكل على الله كفاه، ومن ركن إليه آواه، ومن سأله وتضرع إليه أعطاه.
7- إن الله سبحانه وتعالى لا يضيع من توكل عليه وحده وسلم الأمر إليه، مهما ادلهمت الخطوب واشتدت الكروب، فإنه لا يأس من روح الله ورحمته. فهذه أم إسماعيل لما انتهى طعامها وماؤها أرسل الله إليها غوثاً من عنده، وأجرى لها الماء بأمره جل وعلا.
8- من أقبل على الله تعالى والتزم أمره وتوجه إليه بالعبادة دون سواه، رفع الله ذكره في العالمين، انظر رحمك الله كيف بقيت ذكرى أم إسماعيل في السعي إلى يومنا هذا.
9- من كان همه الدنيا والتمتع فيها فلا يصلح أن يجاور نبياً من أنبياء الله تعالى أهل العبادة والصلاح والعمل والهمة العلية، ولهذا أمر إبراهيم عليه السلام ابنه إسماعيل أن يطلق تلك المرأة التي شكت إليه شدة العيش.
الحكمة من بناء البيت:
وأنت تدرك معي أخي الكريم السر الذي من أجله بني هذا البيت، إنه من أجل توحيد الله ونبذ الشرك، كما قال تعالى:
{وَإِذْ بَوّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِيَ لِلطّآئِفِينَ والقائمينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ ، وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىَ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ}
قال ابن كثير في تفسيره:
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش، في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت، أي أرشده إليه وسلمه له وأذن له في بنائه، {أن لا تشرك بي شيئاً} أي ابنه على اسمي وحدي {وطهر بيتي} قال قتادة ومجاهد: من الشرك {للطائفين والقائمين والركع السجود} أي اجعله خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها {والقائمين} أي في الصلاة، ولهذا قال: {والركع السجود} فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده والصلاة إليه.
وقال القرطبي في تفسيره:
{أَن لاّ تُشْرِكْ} هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ عكرمة {أن لا يُشْرِك} بالياء، بمعنى لئلا يشرك. وفي الآية طعن على من أشرك من قُطّان البيت أي هذا كان الشرط على أبيكم فمَن بعده وأنتم، فلم تَفُوا بل أشركتم.
وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء.
وقيل: المعنى نزّه بيتي عن أن يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.
فللتوحيد بني هذا البيت ومن أجل التوحيد عمر، ولأهل التوحيد وحدهم شيد، ومن أجلهم طهر البيت من الشرك والبدع والخرافات، وهؤلاء الطائفون والركع السجود هم الذين من أجلهم أقيم هذا البيت لا لأولئك الذين يشركون بالله تعالى، ويتوجهون بالعبادة إلى سواه.
وينبغي على المسلم أن لا يتكل على عمله مهما كان صحيحاً صواباً، فإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يأمرهما الله جل وعلا ببناء بيته المحرم من أجل توحيده، فيقومان بذلك خير قيام ومع ذلك لم يتكلا على عملهما بل يسألان الله تعالى دائماً قبول العمل {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فليس صواب العمل كافٍ في القبول، بل لا بد أن يصاحبه الإخلاص لله تعالى الخالص من شوائب الشرك، وحظوظ النفس.
وكان عليه الصلاة والسلام وهو الموحد أبو الموحدين يخشى من الشرك فيقول: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} فهل أحد بعد إبراهيم عليه السلام لا يخاف على نفسه من الوقوع في الشرك!! لهذا ينبغي على كل مسلم أن يكون دائماً يقظاً منتبهاً لنفسه من هذا الذنب العظيم، فإن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ذرية إسماعيل
وبارك الله في ذرية إسماعيل فتناموا وصاروا قبائل، وانتشروا في الجزيرة العربية، وصاروا يسمون العرب المستعربة، وقد بقوا على دين أبيهم إبراهيم عليه السلام مدة من الزمن، ثم بدأ النقص عندهم، ودخلت عليهم البدع من المجاورين لهم شيئاً فشيئاً، حتى دخلت عليهم عبادة الأصنام وكان أول من أدخل الشرك إلى العرب عمرو بن لحي الخزاعي.
روى البخاري عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فَلا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ )).
وفي المسند أيضاً عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجرّ أمعاءه في النار )).
انحراف العرب عن الحنيفية
ترك العرب دين أبيهم إسماعيل، وابتعدوا عن الحنيفية دين أبيهم إبراهيم، وانتشرت بينهم عبادة الأصنام والأوثان، وعددوا فيها إلى حد يثير السخرية؛ حيث كان الواحد منهم في سفره يجمع أربعة أحجار ثلاثةً لقدره وواحداً يعبده، وإن لم يجد حلب الشاة على كوم من تراب ثم عبده.
روى البخاري عن أبي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ يَقُولُ: كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الأخَرَ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا مُنَصِّلُ الأسِنَّةِ فَلا نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلا نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلامًا أَرْعَى الإبلَ عَلَى أَهْلِي فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
وقد عبد قبائل من العرب الشمس والقمر، والملائكة والجن، والكواكب، وبعضهم عبد أضرحة من ينسب إليهم الصلاح. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {أفرأيتم اللات والعزى} قال: كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره.
مقاصد العرب في عبادة الأوثان
وكانت العرب تقصد بعبادة الأصنام عبادة الله والتقرب إليه عن طريقها، أو بواسطتها، وهم على طرق مختلفة؛ فبعضهم يقول: ليس لنا أهلية لعبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته، فاتخذناها لتقربنا إلى الله، وفرقة قالت: إن للملائكة عند الله جاهاً ومنـزلةً فاتخذنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله، وبعضهم جعلوا الأصنام قبلة في عبادة الله مثل الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة أخرى اعتقدت أن على كل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حاجته بأمر الله، ومنهم من يقصدون بذلك شفاعتهم عند الله، واتخاذهم زلفى إليه سبحانه. قال تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقال تعالى عنهم: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله}.
هل كانت العرب تعتقد في أصنامها النفع أو الضر؟
روى الترمذي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي: (( يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهًا قَالَ أَبِي: سَبْعَةً سِتَّةً فِي الأرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ قَالَ: فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ قَالَ: يَا حُصَيْنُ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِيَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي فَقَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي )). قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.
بل كانوا عند الشدائد ينسون آلهتهم ويتخلون عنها كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.
بقايا شريعة إبراهيم عند العرب
وقد بقيت في العرب بقايا من سنن إبراهيم وشريعته ومن ذلك: خصال الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام،كالاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان.
وكانوا يغتسلون للجنابة، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، وكانوا يصومون يوم عاشورا، ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، ويمسحون الحجر ويلبون إلا أنهم يشركون في تلبيتهم يقولون: (( لبيك لاشريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ))، ويقفون المواقف كلها، ويعظمون الأشهر الحرم.
وكانوا يحرمون نكاح المحارم، وعملوا بالقسامة، واجتنب بعضهم الخمر في الجاهلية وكانوا يغلظون على النساء أشد التغليظ في شرب الخمر.
وهم على اعترافهم بالله وبعظمته وبتدبيره للأمور، وأنه الرازق الخالق المحيي المميت، وأن جميع الخلق تحت قهره وتصرفه، إلا أنهم اتخذوا من دون الله وسائط يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}.
فهم بذلك يشهدون أن الله هو الخالق الرازق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن والأرضين ومن فيها عبيده وتحت تصرفه وقهره، ومع ذلك يشركون به ويدعون معه غيره، بل كانت الكعبة - وهي بيت الله المعظم - عندهم يحيط به ثلاث مائة وستون صنماً.
تلك الحياة الجاهلية بكل صورها وفي جميع أماكنها وبقاعها، قد صورها المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم الذي رواه عنه عياض بن حمار المجاشعي حيث قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا. كل مال نحلته عبداً، حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب... )).
فالحديث يشير إلى انحراف الناس عن الشريعة ونبذها وراءهم ظهرياً، واختراع أنظمة وقوانين من عند أنفسهم، فحرموا الحلال وأحلوا الحرام (( كل مال نحلته عبداً، حلال.. وحرمت عليهم ما أحللت لهم )) وهذا رد على ما شرعوه من السوائب والوصيلة والحام والبحيرة، مما يدعونه لآلهتهم، وقد شرع الله أن كل مال رزقه عبداً من عباده فهو حلال له.
كما يوضح الانحراف عن التوحيد والردة الكاملة عن الدين، أنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.. وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطاناً، كما يشير إلى الفساد العظيم الذي غطى وجه الأرض مما استحق الناس مقت الله لهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب.
وأصبحت البشرية بحاجة ماسة إلى منقذ لها من الضلالة إلى الهدى ومن ظلمة الشرك إلى نور التوحيد والإيمان، ومن الشقاء إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
الاصطفاء
في هذا الجو القاتم والزمان المدلهم بالشرك بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم *** إلا على صنم قد هام في صنم
مسيطر الفرس يبغي في رعيته *** وقيصر الروم من كبر أصم عمي
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم )).
وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ )).
وروى أحمد عن عبد الله بن مسعود، قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ.
نسبه الشريف
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وعدنان من نسل إسماعيل عليه السلام.
ولادته ونشأته صلى الله عليه وسلم
ولد يوم الاثنين كما ورد ذلك في صحيح مسلم لما سئل عن صيام يوم الاثنين قال: (( ذاك يوم ولدت فيه )).
في عام الفيل وهو أرجح الأقوال.
وتتفق رواية مسلم مع ابن إسحاق في كون والده مات وهو حمل في بطن أمه.
وفي الصحيحين أن ثويبة مولاة أبي لهم قامت بإرضاعه صلى الله عليه وسلم.كما أرضعته مولاته أم أيمن وقد أعتقها عليه الصلاة والسلام بعد ما كبر.
أما رضاعه من حليمة السعدية في بني سعد فهذا مما استفاض واشتهر، وقد ورد استرضاعه في بني سعد بسند جيد من طريق ابن إسحاق. تقول حليمة السعدية مرضعته لما أخذته من أمه: (( فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا أنها لحافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً فبتنا بخير ليلة (إلى أن قالت) ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولايجدها في ضرع.. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير )).
فأنزل الله عليهم البركة في أنفسهم وأموالهم بسبب قيامهم بأمر صفيّه وحبيبه صلى الله عليه وسلم.
تهيئته لحمل الرسالة
ثم كانت تلك الحادثة العظيمة في بني سعد في شق صدره ونزع حظ الشيطان منه تهيئةً له لتحمل الرسالة:
روى ابن إسحاق بسند جيد أن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه فقال: (( نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوء ثلجاً، فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا أنقياه رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه. زنه بعشرة من أمته. فوزنني بعشرة فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته. فوزنني بمائة فوزنتهم. ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزنني بألف فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنهم )).
وروى مسلم عن أنس بن مالك: (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب واستخرج منه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره )).
كفالته بعد وفاة والدته
وقد ماتت أمه وعمره ست سنوات، فكفله جده عبد المطلب ثم مات بعد سنتين فأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله عمه وحنّ عليه ورعاه.
وقد شب مع عمه أبي طالب تحت رعاية الله وحفظه له من أمور الجاهلية وعادتها السيئة. (( فكان أفضل قومه مروءةً، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطةً، وأحسنهم جواراً، وأعظـهم حلماً وأمانةً، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سمّاه قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة )).
إرهاصات وعلامات نبوته:
وقعت عدة أحداث كانت بمثابة إرهاصات وعلامات ودلالات على نبوته صلى الله عليه وسلم ومنها:
1- تسليم الحجر.
فعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث. إني لأعرفه الآن )).
2- الرؤيا الصادقة.
أما الرؤيا الصادقة فكما روت عائشة رضي الله عنها أن أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
3- العزلة والتحنّث.
لقد حبب إليه الخلوة فكان يخرج إلى غار حراء فيتحنّث فيه وهو التعبّدُ اللياليَ ذواتِ العدد. كما في الصحيحين.
وفي التعبّد درس للمسلم والداعية ليستعين بعبادة الله تعالى على مقاومة نزعات النفس، وشهواتها، ومغريات الحياة وأعراضها، ويتحمل مشاقّ الدعوة ومشاكلها وشدائدها، ويصبر على تربية الناس وتوجيههم وما يصدر عنهم من إعراض أو مشاقّة للداعية.
الوحي وتبليغ الرسالة
ما كان النبي صلى الله عليه وسلم في تعبده وتحنثه ينتظر النبوة أو يترقبها، بل لم تكن تخطر على باله كما ذكر الله تعالى في كتابه حيث قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وقال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ}.
بعث صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون سنةً كما في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال: (( أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنةً، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنةً، ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي صلى الله عليه وسلم )).
وكان ذلك في شهر رمضان المبارك كما في رواية البخاري في كتاب بدء الوحي. وقد جاور في الغار تلك السنة شهراً كاملاً كما ورد في صحيح مسلم.
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها في ذكر بدء الوحي قالت: (( أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم (وفي رواية أخرى (( الصادقة )))، فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح )).
ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - قبل أن ينـزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة - وأخبرها الخبر - لقد خشيت على نفسي.
فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة. وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخاً كبيراً قد عمي.
فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي )).
وَقِفْ أخي مع كلمة: (( وفجأه الوحي )) لتعلم كيف تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في حال عزلته وتحنّثه وخلوته فيدخل عليه شخص غريب بصورة عجيبة ثم يضمه إليه ويقول إقرأ. لاشك أنه بقي خائفاً وهو علامة على ثباته صلى الله عليه وسلم. وهكذا من تحمل هذا الدين ينبغي له أن يصبر ويعلم أنه لم يصل إليه إلا بعد تعب ونصب قاسى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافاً من العنت والتعب.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنـزيل شدةً، وكان يأتيه في اليوم الشاتي فيتفصّد جبينه عرقاً، وقد كادت رِجْل زيد بن حارثة أن ترتض لما نزل الوحي ورأسه على رجله.
وفي مسلم عن عبادة بن الصامت: (( كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه وغمض عينيه )).
تبليغ الرسالة
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة وتبليغ ما أنزل إليه فبدأ بدعوة من يثق به سراً عن سماع المشركين، ومكث على هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين مسراً بالدعوة منذ أرسله الله حتى بادأ قومه بالدعوة، يدعو سراً من يثق به من بني قومه، حيث لم يأمره الله تعالى بالجهر بالدعوة والصدع بها.
وكان المسلمون جميعاً يكتمون إسلامهم ويخفونه عن أقوامهم وأهليهم. روى البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد: (( إذا كان رجل ممن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل )).
ولسرية الدعوة حكم عظيمة وفيها دروس وعظات ومنها:
1- التخفيف على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يواجه العدوّ وحده من أول يوم مع فقدان الناصر.
2- استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة أن يستقطب أتباعاً وأنصاراً للدعوة تمكن من تربيتهم والعناية بهم فكانوا خير عون وسند له بعد الجهر بالدعوة، وهم الذين قامت عليهم الدعوة إلى الإسلام، فكانوا هم البنية الأساسية والقاعدة الصلبة والعمود الفقري للدعوة إلى دين الله عز وجل.
3- إن الإسرار بالدعوة أمر مرحلي واستثنائي لظروف وملابسات خاصة هي ظروف بداية الدعوة.
وعلى هذا فإن الإسرار بالدعوة كلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم مخالف للأصل الثابت المستقر، فلا يجوز اللجوء إليه إلا عند الضرورة، أما الإسرار بما سوى ذلك من الوسائل والخطط والتفصيلات فهو أمر مصلحي خاضع للنظر والاجتهاد إذ لا يترتب عليه كتمان للدين، ولا سكوت عن حق، ولا يتعلق به بيان وإبلاغ.
ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعد أن صدع بالدعوة وأنذر الناس وأعلن النبوة ظلّ يخفي أشياء كثيرة لاتؤثر على مهمة البلاغ والبيان، كعدد أتباعه، وأين يجتمع بهم؟ وما هي الخطط التي يتخذونها إزاء الكيد الجاهلي، ومن أمثلة ذلك قصة الهجرة، وقصة أبي ذر وعمرو بن عبسة.
السابقون إلى الإسلام
إن من النتائج الطبيعية لحداثة الدعوة وسرّيتها أن يكون أتباعها أفراداً معدودين.
ولا ريب أن أول من تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وعلي بن أبي طالب الذي كان تحت رعاية النبي صلى الله عليه وسلم وكفالته وكان صغيراً لا يتجاوز العاشرة من عمره، وأبو بكر صديق النبي صلى الله عليه وسلم وجليسه وكان رأساً مقدماً ومكرماً لدى قريش إليه المرجع في أنسابها، وكان تاجراً صاحب مال محبباً متألفاً.
قال ابن إسحاق في وصف أبي بكر: (( وكان رجلاً مؤلفاً لقومه محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلق حسن ومعروف، وكان رجال قومه يأوون إليه ويألفونه لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.. )).
وقد استثمر أبو بكر ثقة الناس به ومجالستهم له ومحبّتهم لمجلسه بدعوة من يثق به إلى الإسلام، فأسلم على يديه في الأيام الأولى طليعة أهل الإسلام وهم: الزبير بن العوّام، وعثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن عوف. وهؤلاء من العشرة المبشرين بالجنة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولاشك أن أهل بيته كانوا من أوائل من دخل في الإسلام، للحديث المخرج في البخاري في قصة الهجرة عن عائشة قالت: (( لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين )).
وذكر أن ممن أسلم على يد أبي بكر: مصعب بن عمير، وعيّاش بن أبي ربيعة، والأرقم بن أبي الأرقم بن عبد مناف بن أسد، وعثمان بن مظعون الجمحي.
الدروس والعبر:
1- بيان أثر مجالسة الأخيار وصحبتهم وبركتها على من جالسهم فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه اكتسب هذه المكانة من إيواء الرسول صلى الله عليه وسلم له دون سائر إخوانه، وأبو بكر من صحبته وصداقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- أثر الأخلاق الحسنة في تأليف الناس، وخير الناس من يألف ويؤلف، أما الجفاء والغلظة فكثيراً ماتكون عائقاً في طريق الدعوة.
3- لاشك أن أصحاب الجاه والمال لهم أثر كبير في كسب أنصار للدعوة.
4- إن قيام أبي بكر بالدعوة إلى الله تعالى يوضح صورةً من صور التفاعل بهذا الدين والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم صورة المؤمن الذي لا يقرّ له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في واقع الحياة ما تشبّع به وآمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعةً عاطفيةً مؤقتةً سرعان ما تخمد وتذبل وتزول.
5- يلاحظ أن الإسلام انتشر في جميع عشائر قريش فلم يعتمد على القبلية التي كانت إذ ذاك محور الحياة عند العرب، فلم يكن نصيب بني هاشم أكثر من غيرهم في الإسلام.
6- دخول مختلف القبائل في الإسلام وعدم اقتصاره على بني هاشم في بداية الدعوة حققت مصلحةً عظمى في عدم اعتباره عملاً يحقق مصالح العشيرة التي ينتمي إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلي من قدرها على حساب الآخرين.
7- أعان هذا أيضاً على انتشار الإسلام في جميع العشائر والقبائل دون أي تحفظات أو اتهامات شخصية للداعي أو الدعوة.
8- لقد كان الذين أسلموا في الطليعة الأولى ظلّوا دائماً في الطليعة في الحرب والسلم والسياسة والحكم أئمةً في العلم والفقه والفتيا والسابقين في سائر الأمور، فلم يكن عملهم فترة حماس وخبت وفترت وزالت، وإنما هي إيمان عميق يحرك العواطف والنفوس والعقول للعمل لهذا الدين. فلم تعرف تلك الطليعة راحةً ولا ترفاً ولا نوماً ولا كسلاً منذ أسلمت حتى لقيت الله تعالى رضي الله عنهم أجمعين.
9- لقد كانت هذه الطليعة غريبةً في ذلك المجتمع الجاهلي الذي يعجّ بالفوضى والفساد والانحلال، ولكن غربتهم ليست كالغربة المتعارف عليها من شعور الغريب بالضعف والذلّ والانكسار والرضى بالدون، والخضوع والضعة، لقد ربّى الإسلام فيهم روح العزّة والكرامة والاستعلاء والفوقية على الكافرين، ثم شعور بوجوب غزو هذا المجتمع الجاهلي وتقويض أركانه، يصاحب ذلك همة وثقة تامّة بنصر هذا الدين والتمكين له في الأرض، فكانوا يتسابقون للمشاركة في رفع راية الإسلام، ويهمّ الواحد منهم أن يكتب الله على يديه التمكين لهذا الدين.
الجهر بالدعوة
إن الدعوة لم تنـزل لتكون سرّيةً يخاطب فيها الفرد بعد الآخر، وإنما جاءت نِذارةً للعالمين وبشارةً للخلق أجمعين؛ لإخراج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعد محصور في مكة وقريش تكيد له وتعاديه أنزل عليه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وإذا كان الأمر كذلك فإن الدعوة الإسلامية ليست خاصةً بقريش ولا بالعرب، وإنما هي رحمة من الله لجميع الخلق، فلا بد من الجهر بها، وإعلانها للناس، والسعي لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة.
وهذا يعني بداهةً أن من أبرز خصائص دعوة الإسلام: الإعلان، والصدع، والبلاغ، والنذارة، والبشارة، ويتحمّل أتباعها ما يترتّب على ذلك من الإيذاء والقتل وغيره.
لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات يدعو إلى الله تعالى سراً ثم أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين فأنذرهم، ثم أمره بالصدع بالدعوة فصدع بها.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: (( لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف يا صباحاه، فقالوا: من هذا. فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جرّبنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب عظيم. قال أبو لهب: تباًّ لك ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام. فنـزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} )).
وفي تفسير سورة الشعراء من البخاري: (( قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا )).
وعن أبي هريرة قال: " فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: (( يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً )).
الدروس والعبر:
1- بداية الأقربين بالدعوة حتى لا يكونوا حجةً للأبعدين، والحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وهم أولى بالبر والخير بالنسبة للداعي من غيرهم لما في ذلك من صلة الرحم.
2- دعوة الأقربين بيان للناس عدم محاباة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، وبيان صدق ما جاء به إليهم حيث خصّ بما جاء به أقاربه وأهل بيته قبل غيرهم من الناس.
3- إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم المنهج الإسلامي من أول يوم في منازل